كوسوفو وخيار العرقية الشمولية أو الدولة العلمانية الحديثة

TT

الاسرة الدولية لا تزال مترددة في إصدار شهادة الميلاد الشرعية للأمة حديثة الولادة بعد مخاض طويل نحو الاستقلال.

الخيارات التي واجهت الاغلبية الالبانية العرق في كوسوفو، بينما كانت لا تزال اقلية داخل صربيا، وتلك التي واجهت وأوروبا والعالم كانت كلها مرة المذاق.

رفض الاقلية الصربية ـ التي كانت الاغلبية حتى اسبوع ـ استقلال كوسوفو وحرقهم نقاط الحدود الجديدة التي تفصلهم عن صربيا، مضطرة قوات الناتو للتدخل لحفظ الامن، هو تعبير عن أحد جوانب البلقنة.

المجموعات العرقية تمتحن قدرتها في الحصول على مكاسب وتحقيق طموحاتها التاريخية كلما سنحت فرصة تخلقها المتغيرات في موازين الاقليمية والدولية.

اختبار البلقنة يطرح في شكل سؤال: «.. ولماذا نظل اقلية عندكم اذا كان بإمكاننا تحويلكم الى اقلية عندنا ؟»

موازين القوى اليوم تختلف عن مثيلاتها في نهاية الثمانينات وما تبعها من حروب تفكيك يوغسلافيا.

القوميون الصرب الذين كانوا «عدو الحرية» يوم تدخل الناتو لتحرير كوسوفو، يجدون انفسهم اليوم محل تأييد من اطراف اوروبية كاسبانيا ومولدوفا، وأخرى تبعد عنهم آلاف الاميال كالصين التي لا تعترف بتايوان او حق التبيت في الانفصال، وبلدان لا يعرف اغلب سكانها موقع كوسوفو على الخريطة كسريلانكا التي تواجه تمردا دمويا للتاميل الانفصاليين. ولعامين ناقش خبراء السياسة الدولية خيار إبقاء كوسوفو تحت وصاية دولية حسب قرارات الامم المتحدة، وفي اذانهم تهديدات القوميين الكوسوفيين بمعاودة حمل السلاح كما فعلوا قبل عقد وتفجير حرب جديدة. وخيار استقلال كوسوفو يهز الحكومة الليبرالية الديموقراطية المنتخبة حديثا في بلغراد؛ فرد فعل القوميين الصرب المتشددين، خاسري الانتخابات، سيلهب المشاعر القومية في البلاد ويزيد من نفوذ موسكو.

الروس يرون البلقان اليوم جبهة حرب باردة جديدة. موسكو اطلقت قذيفة تحذير فور اعتراف ألمانيا بكوسوفو المستقلة، بإيقاف شركة «لوك اويل» الروسية صادراتها من البترول الى المانيا التي تستورد ثلث وقودها من روسيا، بحجة نزاع حول تعريفة الواردات المدفوعة، وليست المرة الاولى لاستعراض موسكو عضلات البترول والغاز الديبلوماسية.

المفارقة ان الحكومة الجديدة في بلغراد، والأكثر انسجاما مع الديموقراطية الغربية، تحصد ما زرعته ديكتاتورية سلوبودان ميلوسوفيتش، وتدفع ايضا ثمن تجربة الاتحاد الاوروبي لسياسة خارجية موحدة تنافس واشنطن في تصدير الديموقراطية .

اختارت اوروبا كوسوفو ميدانا آمنا لتجربة الديبلوماسية الجديدة، لأن سياستها تتفق وسياسة واشنطن للمرة الاولى منذ تفجر الخلافات بينهما بشان أفغانستان والعراق.

الانقسام اليوم في اوروبا.. فقبرص واليونان وسلوفاكيا ورومانيا وإسبانيا ترفض الاعتراف باستقلال «غير مشروع».

مدريد تواجه حركة الباسك الانفصالية بقيادة منظمة «ايتا» التي صعدت اعمال العنف أخيرا وتراقب باهتمام كيف وضع القوميون في كوسوفو العالم أمام الأمر الواقع.

في احتفاله برفع علم كوسوفو الجديد ـ يشابه علم اوروبا بلونه الازرق ونجومه التي تمثل الاتحاد ـ قال خافيير سولانا إن بروكسل تدعم الخيار الديموقراطي الليبرالي الحر لأغلبية سكان كوسوفو. وربما يكون صادقا في ذلك، لكن الاتحاد الاوروبي، عن عمد او عن غفلة، قدم للعالم سابقة تعتبر نموذجا لاستقلال دولة لا على أسس القيم والمؤسسات التي تتكون منها الدولة القومية الديموقراطية، بل على أسس عرقية، اي نموذج قبلي عشائري في حالته الحميدة، او مقدمة للعنصرية التي تفجرت منها النازية والفاشية، في حالاته الخبيثة.

فاستنادا للنموذج نفسه، يطالب صرب كوسوفو بالاستقلال (لماذا نكون اقلية عندكم؟).

المجموعة العرقية الصربية رفضت منذ اليوم الاول الهوية الجديدة لكوسوفو، وأصرت على ان تبقى صربية او تنضم لصربيا (بدليل ازالتهم للحدود كأول عمل جماهيري شبه منظم).

وقد تتكرر كارثة التطهير العرقي ودموية انفصال الولايات ذات الاغلبية المسلمة لتكون باكستان عقب استقلال الهند. فصرب كوسوفو لا يعيشون جميعا في منطقة واحدة يسهل اقتطاعها وضمها لصربيا، ما سيؤدي لتطهير عرقي على اغلب الظن.

بيروقراطيو الاتحاد الاوروبي ودعاة تصدير الديموقراطية الامريكيون ربما يحصرون الجدل في اطار اكاديمي كتدريب العالم غير الديموقراطي والدول الشيوعية السابقة على بناء مؤسسات الحكم الصالح، ويطمئنون بلدانا كإسبانيا بأن كوسوفو «حالة خاصة جدا» لأنها كانت تحت وصاية دولية.

امريكا بعيدة جغرافياً، وتاريخ اشتراكها الحديث في البلقان تلخّص في إلقاء القنابل على «الأشرار» وإرسال الأموال وآلاف أطنان الغذاء والدواء لـ«الطيبين».

وجغرافياً تمسك اوروبا بكوسوفو بين يديها كقطعة فحم ساخنة تراقب درجة حرارتها باهتمام.

الامم المتحدة لا تزال مترددة في الاعتراف، خاصة ان الدب الروسي يصيح غضبا رافضا استقلال كوسوفو.

صحيح أن كوسوفو اختارت علما علمانيا ليبراليا يعبر عن الرغبة في الانضمام للاتحاد الاوروبي بعيدا عن صربيا؛ لكن أعلاما اخرى ظهرت في ايدي آلاف الكوسوفيين، علم صربيا الثلاثي الالوان، وعلم البانيا بالأحمر والأسود. ولم تتضح بعد نسبة الذين يحددون هويتهم القومية الجديدة من سكان كوسوفو بالعلم الاوروبي الليبرالي والمؤسسات الديموقراطية، مقارنة بمن يرون هويتهم عرقية صرفة من البان، وصرب؟

ومسألة تحديد الهوية القومية الجديدة اكثر عمقا وتعقيدا من لون العلم وما يحمله من دلالات.

فتعريف من دعموا استقلال كوسوفو (الاوربيون بزعامة بريطانيا، والامريكيون) الليبرالي الديموقراطي الدستوري الحديث للهوية الوطنية في الدولة القومية، يتناقض في جوهره مع تعريف الذين حصلوا على استقلالهم حديثا للهوية.

الأغلبية في كوسوفو ترى هويتها عرقية (البانية) ودينية (مسلمة)، كصمغ تتماسك به اجزاء الامة الجديدة.. وهذا بدوره يخلق استقطابا لمجموعة ترى هويتها عرقية مناهضة (صربية) ودينية مختلفة (مسيحية، خاصة بوجود اماكن مقدسة تاريخية للمسيحيين في كوسوفو). أما بالنسبة للندن وواشنطن والاتحاد الاوروبي فإن الهوية التي تحافظ على تماسك وبقاء الدولة القومية هي مجموعة القيم المؤسساتية ونمط الحياة الديموقراطي الدستوري. ومحل اختبار هذه القيم هو سلوكيات وتصرف الامم، سواء ناخبين او ساسة في الحكم؛ كاحترام القانون وسيادته والمؤسسات الديموقراطية، والاهم احترام حقوق الاقليات العرقية ومعاملتها بمساواة كاملة. بينما في البلدان التي تتحدد هويتها القومية على اسس عرقية او ثيولوجية تتراجع القيم والمؤسسات الدستورية والمساواة امام القانون الى مرتبة خلفية وتضطهد الاقليات، وتتحدد الهوية القومية بشكل قبلي او عشائري حول الانتماء الاثنوغرافي وشعارات توحيد الدين والعرق للأمة وتنتهي، بلا استثناء واحد، الى نظام حكم شمولي فاشي باسم العرق او الدين.

أمام كوسوفو الجديدة امتحان صعب يجب اجتيازه لتقبل الاسرة الدولية عضويتها، وهو التخلي عن شعارات جيش استقلال كوسوفو، وفكرة الامة الالبانية الاكبر، واحتضان قيم العالم الحر والمجتمعات الديموقراطية والليبرالية النيابية ومساواة الأقلية للأغلبية في الحقوق وتمثيلها في الحكومة وسيادة القانون على الجميع بصرف النظر عن انتمائهم العرقي او الديني، والتركيز على انتماء واحد وهوية وطنية واحدة بمقاييس قيم الدولة القومية الحديثة.