انتخابات باكستان والأجندة الأمريكية لمكافحة الإرهاب

TT

الجميع يتفق، هنا في باكستان، على أن لواشنطن ذراعا واصلا يعمل على تحديد الملامح الرئيسة في السياسة الباكستانية. وقد طال هذا الذراع في باكستان عقب أحداث 11 سبتمبر، لذا فقد ارتبطت المصلحة الأمريكية وتحقيق طموحاتها في منطقة جنوب آسيا بصلة وثيقة بباكستان، لذا فقد حرصت واشنطن على وضع اسلام اباد تحت مجهرها السياسي والاستراتجي، وكانت بمثابة الملف الرئيسي والساخن على مائدة صناعة القرار السياسي الأمريكي، والأهمية برزت ليس فقط من أن باكستان دولة حليفة في ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، بل إن كون باكستان دولة نووية يعد من أهم العوامل التي تقف وراء الاهتمام الأمريكي تجاه هذه الدولة الآسيوية، فيهم الأمريكان عدم تفجر الوضع في باكستان سواء سياسيا أو أمنيا على الأقل في الوقت الراهن حتى تضع الولايات المتحدة يدها أو سيطرتها على المنشآت والأرصدة النووية والاستراتيجية لباكستان، وبعدها يمكن أن تفكر في سياستها لتقسيم هذه الدولة بحسب خارطة الشرق الأوسط الكبير، فمن هذا المنطلق راقب الأمريكيون التطورات السياسية والأمنية عن كثب، ولم يقتصر ذلك على المراقبة فحسب، بل ساهمت بشكل فعال على اخراج النتائج التي تمخضت عن انتخابات فبراير، وأنها ستشارك في عملية تشكيل أو تنصيب الحكومة المستقبلية لتأمين حكومة تعمل على مواصلة السياسة الأمريكية في المنطقة.

«أم الانتخابات التشريعية في باكستان»، هكذا وصفت وهكذا كانت برأي كثير من المراقبين، فالانتخابات أفرزت نتائج كانت متوقعة تقريبا من كل مراقب ومتابع للشأن الباكستاني خاصة بعد اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو رئيسة حزب الشعب الباكستاني، فبعدما كان الحديث عن الصفقة السياسية بين مشرف ـ وبوتو، بات السيناريو السياسي واضحا بتكوين تحالف سياسي تحت رعاية ودعم أمريكيين قد يخدم مصلحة واشنطن في المنطقة، ولكن بعد غياب بوتو عن المسرح السياسي اختلطت الأوراق وتعقد السيناريو السياسي وبات الرئيس مشرف يبحث عن مخرج سياسي، خاصة وأن استطلاعات الرأي بدأت تشير إلى تقدم أحزاب المعارضة في الانتخابات وتنذر بسقوط الأحزاب الموالية للرئيس مشرف. ومن هنا بدأ مشرف في البحث عن مخارج داخل الدستور الباكستاني، لتأمين بقائه في سدة الحكم، فقد كانت العقبة الأولى في طريقه هم قضاة المحكمة الاتحادية العليا وعلى رأسهم افتخار محمد تشودري رئيس القضاة الأسبق، وكان السبيل الوحيد للتخلص منهم هو قانون الطوارئ الذي فرضه الرئيس الباكستاني في الثالث من شهر نوفمبر الماضي وعقب القرار إقالة ما يقرب عن سبعة وثلاثين قاضيا في مختلف المحاكم القضائية العليا في جميع الأقاليم الباكستانية والمحكمة الاتحادية العليا في إسلام آباد.

ومن هنا لاقت المعارضة السياسية ضالتها لتأجيج الحملات الانتخابية لكسب عطف وتعاطف الشعب الباكستاني، فاستغلال هذه النقطة كان كبيرا من قبل حزب الرابطة الإسلامية لنواز شريف، أما حزب الشعب الباكستاني فقد كسب بالفعل عطف الشارع الباكستاني عقب عملية الاغتيال.

أما الخطوة الثانية التي أقدم عليها مشرف هي تنحيه عن المنصب العسكري في السابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي وهي خطوة سعى لها مشرف لتحييد وتخفيف الضغوطات الدولية عليه عقب فرض حالة الطوارئ، ولكن اختياره قائد لقيادة الجيش جاء بعد مشاورات حثيثة أجراها مشرف مع قيادات الجيش وبالطبع كان ولابد بأن تكون الشخصية المختارة في الجيش مقبولة لدى واشنطن لاسيما وأن الأخيرة باتت حريصة ومتمسكة بمواصلة ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب. ووقع الاختيار على الجنرال برويز إشفاق كياني رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق بعدما تم تهييئه لذلك عبر تعيينه في منصب نائب قائد الجيش.

وبالطبع لم يكن الرئيس ليقامر على عملية انتخابه كرئيس للبلاد بعد الانتخابات خاصة وأنه كان يدرك بأن شعبيته قد تدنت بين طبقات الشعب الباكستاني والفرصة الوحيدة للتخلص من عنق زجاجة البرلمان هو أن يتم انتخابه عبر البرلمان الموالي له، وبالفعل تم انتخابه كرئيس للبلاد في السادس من أكتوبر الماضي وسط مقاطعة المعارضة السياسية في كافة الأقاليم الباكستانية.

والسؤال المطروح هو: هل سيبقى كياني بعيدا عن مسرح الأحداث؟؟ .. بعد تولي كياني منصب قيادة الجيش اتخذ خطوات تشير بوضوح إلى أنه بدأ يسحب البساط العسكري وتواجد قيادات ووحدات الجيش في المؤسسات المدنية، ويرى بعض المراقبين بأنه بمرور الوقت قد ينجح كياني بأن يكون أقوى الشخصيات على الإطلاق ليس في المؤسسة العسكرية فقط بل في باكستان كلها، فالولايات المتحدة صدقت على التحويلة في قيادة الجيش من منطلق اعتبارات البحث عن بديل للشخصية المشرفية ـ إن جاز التعبير ـ خاصة بعد المخاطر التي كانت تهدد مشرف على الصعيدين الشعبي والسياسي فالبحث عن البديل كان مهما ووقع الاختيار بالطبع على الجنرال كياني.

ويرى المحلل السياسي طلعت مسعود (جنرال سابق) بأن كياني، شيئا فشيئأ بدأ بالفعل في إحكام قبضته على المؤسسة العسكرية في ضوء الإجراءات الأخيرة التي اتخذها، بل إن من المتوقع أن يكون الجنرال الجديد الشخصية المحورية التي قد ترسم الملامح السياسية للمرحلة القادمة وقد يمسك بزمام الأمور لرسم الخارطة السياسية الجديدة بل يلجأ البعض بالقول إلى أكثر من ذلك حيث يرى محللون أمريكيون وباكستانيون بأنه قد يحدد الشخصيات التي قد تقود المؤسسة الديموقراطية ما بعد مرحلة الثامن عشر من فبراير.

إذن في المرحلة القادمة ستتمحور دائرة الضوء حول هذه الشخصية العسكرية التي نشأت من عائلة عسكرية في منطقة كجرات ـ المعروفة بإبرازها للقيادات العسكرية بالجيش ـ فكياني ترعرع في كنف والده، الذي كان عريقا بالجيش، ودرس بالمدارس العسكرية حتى تخرج في الأكاديمية العسكرية وأكمل تعليمه العسكري بعدد من الكليات الحربية في الولايات المتحدة. حيث تخرج من كلية ليفنورث العسكرية وأكمل دراساته بكلية الحرب والأركان في كلية بيننيج فورت، وأيضا تلقى دورات في مركز اسيا باسيفيك للدراسات الأمنية في هاواي بالولايات المتحدة في أواخر التسعينيات.

نعم... يتطلع الباكستانيون الآن إلى مرحلة ما بعد الانتخابات التي جرت في الثامن عشر من شهر فبراير الجاري، فالمراقبون هنا يصفون هذه الانتخابات بأنها تاريخية وأنها كانت بمثابة استفتاء شعبي مفاده نعم أو لا للرئيس الباكستاني برويز مشرف، ولكن بعد تحقيق أحزاب المعارضة نصرا ساحقا على الأحزاب الموالية لمشرف بدأ الباكستانيون ينتظرون الخطوة التالية لهذا الإنجاز السياسي، ولكن قوانين اللعبة السياسية في باكستان والتدابير الدستورية التي اتخذها الرئيس مشرف قد تحول دون توحيد صف المعارضة في مواجهته خاصة مع اختلاف الأجندات السياسية والأيديولوجيات الحزبية لهذه الأحزاب لاسيما فيما يتعلق بقطبي هذه الأحزاب الشعب الباكستاني بزعيمه الحالي آصف زرداري زوج بينظير بوتو وحزب الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف. وعلى الرغم من وجود نبرة التوافق في تصريحات هذين الحزبين إلا أن كلا منهما بدأ بالفعل في اتخاذ مسار مختلف عن الآخر سعيا لتشكيل الحكومة المستقبلية.

رحيل مشرف عن الساحة وحد هذه الأحزاب خاصة وأن هذا المطلب يتماشى مع نبض المواطن الباكستاني والذي كان من بين أهم العوامل التي أدت إلى تحقيقهم لهذا الفوز الساحق، بيد أن الواقع الدستوري قد يحرم هذه الأحزاب من مواصلة هذه الأجندة خاصة وأن الرئيس الباكستاني أمّن موقفه أولا عبر إعادة انتخابه من قبل البرلمانات السابقة ليضمن بقاءه في السلطة لخمس سنوات وثانيا احتفاظه بالبند (85 ب) من الدستور الباكستاني والذي بموجبه يحق له إقالة رئيس الوزراء وحل البرلمانات المنتخبة... سلاح قد تخشاه المعارضة وقد تعمل له ألف حساب أثناء عملية المقايضة السياسية التي تجري حاليا بينهم.

وفي ظل هذه المعطيات ومن ضوء التصريحات الآنية التي يطلقها زعماء هذه الأحزاب يرى مراقبون إن حزب الشعب الباكستاني وهو الأوفر حظا بحسب نتائج الانتخابات حيث يحتل المرتبة الأولى في البرلمان الفيدرالي، قد ينأى بنفسه عن حزب الرابطة الاسلامية وقد يلجأ إلى الأحزاب الصغرى الأخرى مثل حزب الحركة القومية للمهاجرين وحزب العوام القومي البشتوني وكذلك استقطاب المرشحين المستقلين ليحظى بثلثي المقاعد في البرلمان وبالتالي فقد يحق له تشكيل حكومة ائتلافية، فالصراع قد يحتدم وبشكل أكبر بين حزب نواز والشعب حول الشخصية التي سيتم ترشيحها لرئاسة الوزراء، لاسيما وأن شريف يستعد للمشاركة في مرحلة إعادة الانتخاب لبعض المقاعد ومن ثم قد ينجح في الدخول إلى قاعة البرلمان، وبالتالي فقد يرى نفسه الشخصية الأمثل لرئاسة الوزراء وهنا قد تكون العقدة الكبرى التي قد تحول دون توصلهما إلى اتفاق.

وفوق كل ذلك لا يتجاهل المراقبون العامل الأمريكي الذي بدأ بالفعل في التأثير على عملية تشكيل الحكومة خاصة بعد اللقاء الذي عقدته آن بيترسون السفيرة الأمريكية لدى باكستان مع آصف زرداري، فواشنطن يهمها تنصيب حكومة تعمل على مواصلة أجندتها في المنطقة وبالطبع فالرئيس مشرف يعتبر من بين أهم وأقرب الشخصيات لواشنطن وبالتالي فالأخيرة ستعمل على تأمين حكومة من التركيبة الحزبية الراهنة للخروج بخليط سياسي قد يخدم أولا مصلحتها ومواصلة ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب لاسيما في منطقة القبائل الباكستانية وذلك لن يتم إلا باستمرار الرئيس مشرف في سدة الحكم، وبالتالي فقد تسعى واشنطن الى إحياء ما دفن مع مقتل بينظير بوتو من الصفقة السياسية بين مشرف وبوتو مستقطبة بعض القيادات إن لم يكن أغلبها داخل حزب الشعب.

وفي هذا الشأن يقول الجنرال (المتقاعد) حميد غل رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق، ان واشنطن تقوم باتباع استراتيجية الكفاح من أجل البقاء حيث مازالت تستخدم سياسة العصا والجزرة مع الباكستانيين خاصة مع الحكومة الباكستانية، فتارة تهدد بوقف المساعدات العسكرية والاقتصادية لباكستان وتارة أخرى تقوم بالإشادة بما تقدمه باكستان في ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، ونصح غل الحكومة المستقبلية بأن تتخذ سياسة حازمة مع الولايات المتحدة وان لا تهتم بتهديدها بوقف المساعدات فباكستان عسكريا لا تحتاج إلى أي مساعدات عسكرية. أما فيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية فالأمريكيون يدركون بأنهم لن يستطيعوا وقف هذه المساعدات خاصة وأن باكستان تعد حلقة الوصل الأساسية لوجيستيا بين القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولية العاملة في أفغانستان وأن أي محاولة أمريكية لوقف المساعدات قد تؤثر على المساعي الأمريكية في مواصلة هذه الحرب إقليمياً. وانتقد غل سياسة الرئيس مشرف عبر عدم نجاحه في فهم السياسة الأمريكية وكيفية التعامل معها .

خلاصة القول إن المرحلة الآنية والأسابيع القليلة القادمة قد تحمل في طياتها صفحات جديدة من الغموض السياسي لشعب طالما حلم باستقرار سياسي وديموقراطية حقيقية، بيد أنه في ظل هذه المعطيات يبقى هذا الحلم بعيدا عن التحقيق على الأقل في الوقت الراهن.

*رئيس القسم العربي بوكالة الأنباء الباكستانية

خاص بـ «الشرق الأوسط»