جيل الألف

TT

ذوو الأقلام والمحابر الذين هاجروا إلى باريس في الخمسينات والستينات، حلموا بطرف عينهم أو طرف قلمهم، أن يحولوها ذات يوم إلى مكان لرواية أو مسرحية أو مذكرات. جاءوا يبحثون عن التجربة، لا عن المدينة. عن ذريعة تربط بين أسمائهم وبين أسماء السين والحي اللاتيني ومونمارتر، وتلك الأقبية التي طالما كتب عنها نزار قباني، لكنه في الحقيقة لم يعرفها إلا من شعر.

عندما عرف نزار باريس كانت الأقبية قد تحولت إلى مقاه «وجودية» فوق الأرض. لم يعد ثمة ضرورة للخباء تحتها.

جاء سهيل إدريس إلى باريس وفي مخيلته تجربة توفيق الحكيم، «عصفور من الشرق». الأول، كان من جيل الألف، من جيل الرواد، وكانت «صدمته» بالغرب ممتعة وموحشة. سهيل إدريس كان من جيل الباء، له صلة واضحة بالريادة لكنه ليس رائدا. إنه مقلد ممتاز من المقلدين. لكنه لم يتوقف عند تجربة الحكيم، رغم الشبه الشديد في السرد، بل قفز من «الشرق» إلى غرب جان بول سارتر وألبير كامو (وبقية رفاق السان جيرمان) الذين أصبح مترجمهم وناشرهم وحارس آدابهم في العالم العربي. وفي ثلاثيته نلمح بوضوح، مداخل توفيق الحكيم إلى التجربة، ثم نقفز إلى سارتر الذي حاول فتى الخندق الغميق، حي بيروت الشعبي، أن يقلد في مذكراته فتى برست، شرق فرنسا والبورجوازية التي أعطت العالم اشهر البروليتاريين من عائلة واحدة: سارتر وألبرت شفايتزر.

حمل سهيل إدريس من سارتر أيضا تجربة «الأزمنة الحديثة» فأنشأ مجلة «الآداب» لكي يكون راعيا للحركة الأدبية وليس فقط مشاركا فيها. وظل حتى أواخر العمر، خليطا من مجموعة نزعات متنازعة: خريج المعهد الديني (فرع الأزهر) في بيروت، وخريج السوربون في الزمن الوجودي، ورجل الحداثة التي لا تؤمن بالقوميات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ورجل القومية العربية، الذي حول الشعر والكتابة إلى التزام هجومي ودفاعي: مرة يكافح ضد ظاهرة «شعر» وليبراليتها المبالغة، ومرة يحاول أن يعطي الكلاسيكية العربية من نفحة الحداثة ما يمكنها من الصمود والتفوق. كان سهيل إدريس في حد ذاته ظاهرة أدبية لا فردا. هو جميع الناس في كل الحقب. هو ابن بيروت المحافظة مثل فاس ومثل القيروان، وهو الطالب في باريس الذي يبحث عن باريسية تحمله حملا من البسطة إلى الحي اللاتيني. هو الحريص على اللغة حتى التكرس أو التقديس، وهو الغارق في الفرنسية مستحما بجمالياتها مثل طفل صغير. هو المحتذي خطوات توفيق الحكيم يلتقي فجأة على الناصية جان بول سارتر ويمسك بذراعه. كان أحد كبار جيل الباء. ولم يكن ذلك هينا عندما نتأمل عملقة جيل الألف.