الطفل الكارثة

TT

كنت أنتظر قدوم القطار على رصيف المحطة مع مجموعة كبيرة من الركاب المتزاحمين، حيث أن القطار تأخر عن موعد وصوله أكثر من ربع ساعة، وعندما وصل وتوقف وفتح أبوابه، تزاحم الركاب بالمناكب على دخوله من جميع الأبواب، وأنا كنت من أوائل المزاحمين، واستطعت أن أحصل على كرسي خال جلست عليه وحمدت ربي وكأنني أجلس على عرش (بلقيس)، وامتلأت المركبة التي كنت فيها بالواقفين المتراصّين من الرجال والنساء، وكنت في قرارة نفسي أنظر إليهم وأرثي لحالهم، ولكن من دون أي شفقة مني نحوهم، فطالما أنني كنت جالساً ومستريحاً، فتلك هي غاية المُنى، وليذهب الجميع إلى حيث شاءوا.

وأخذت التصق بالشباك وأنظر من خلاله بكل راحة وحُبور للجبال والمزارع الشاسعة التي ترافق القطار طوال مسيرته، وفجأة وإذا بطفل صغير ينفجر ببكاء مزعج ومتواصل، ووالدته المحرجة من تذمّر الركاب تحاول بشتى الوسائل أن تسكته من دون جدوى، بل إنها كلما استرسلت بالكلام معه ازداد بكاؤه وزعيقه، والواقع أنني أنزعج من بكاء الأطفال، ولكن ذلك الطفل كان (غير شكل)، كان مختلفاً جداً، حيث أن حبال حلقه الصوتية لا يمكن بل ومن المستحيل أن تكون حبال إنسان طبيعي، وهي أقرب ما تكون للحبال الصوتية لبعض الحيوانات التي يسمع زعيقها ونداءاتها عبر عدّة كيلومترات.

وبعد معاناة توقف القطار في المحطة الأولى، وعند فتح الأبواب وإغلاقها لدقائق معدودة توقف الطفل عن البكاء، وتنفست وتنفس بقية الركاب الصعداء، اعتقاداً منا أن الصواعق وعويل العواصف قد انتهى، وأن الهدوء قد استتب، ولكن ما أن تحرك القطار، وإذا بالطفل (المعجزة) ينفجر صوته مرّة أخرى بأعلى مما سبق، وتمنيت ساعتها لو أنني أملك سدادات للآذان. وفجأة وإذا بنا نسمع عواء كلب يزاحم صوت الطفل بارتفاعه، وأخذت أحشر رأسي بين الواقفين لأستعلم عن مصدر الصوت الذي زاد الطين بلّة، وأخيراً عرفت أنه صادر من رجل طويل نحيف متقدم بالسن بعض الشيء وركب القطار في المحطة السابقة.

وتحول عواء الرجل إلى شيء من (الهَوْهَوَة)، وكاد بعض الركاب أن يخرسوا الرجل لأنهم ليسوا في حاجة إلى زيادة الصداع فوق صداعهم الذي سبّبه لهم ذلك الطفل الأعجوبة، غير أننا لاحظنا أن الطفل توقف عن البكاء وراح ينظر لذلك الرجل مدهوشاً، وقد دسّ رأسه على كتف أمه. توقف الرجل عن النباح قليلاً، ثم نبح مرّة أخرى، فأخذ الطفل يضحك مسروراً، وهو يتمتم بكلمات لأمه لم أفهمها ويشير إلى الرجل، وراحت الأم تبتسم لأن الله فرجها وأعتقها من الإحراج وهذا العبء الثقيل من تذمّر الركاب وتململهم وكلمات بعضهم التي لا تخلو من الوقاحة أحياناً.

وأخذ الجميع يتضاحكون، ونسينا جميعاً معاناتنا وكأن شيئاً لم يكن، حيث أن ذلك (النباح) أعادنا إلى إنسانيتنا، التي كدنا ننساها في سبيل راحتنا الشخصية.

وعندما وصل القطار إلى المحطة التي أقصدها، وقبل أن أنزل مررت بجانب الأم وطفلها، وزيادة من إنسانيتي مررت بإصبعي على خد الطفل مداعباً، وما كدت أفعل ذلك حتى انفجر بالبكاء الرهيب، فقفزت دفعة واحدة من خلال الباب على الرصيف، وأغلقت الأبواب، وانطلق القطار وما زلت أسمع بكاءه يلجلج إلى أن اختفى.

وسرت خارجاً من المحطة، وإذا بي ألمح أمامي الرجل الطويل النحيف، فقلت بيني وبين نفسي: مَن هو الآن في القطار الذي سوف ينبح ليسكت ذلك الطفل الكارثة؟!

[email protected]