المسلمون يرفعونه.. والمسيحيون يحرقونه!

TT

مشهد المسلمين في كوسوفو وهم يرفعون العلم الأميركي مقابل مشهد المسيحيين الصرب وهم يحرقون العلم الأميركي، يوم أعلنت الولايات المتحدة دعمها لاستقلال كوسوفو، هو مشهد مثير للدهشة. الصرب المسيحيون لم يحرقوا العلم وحسب، بل حاولوا حرق السفارة الأميركية أيضا. وفي المقابل، كان الألبان المسلمون يطوفون الشوارع رافعين راية الأميركان (الكفار).

هذا المشهد لا يروق لمن يريدون تبسيط السياسة الدولية ويختصرونها بعداء أميركا المطلق للمسلمين في كل زمان ومكان، وبنظرية الصدام المحتم بين المسلمين كافة والمسيحيين عامة. الحقيقة هي أن السياسة الدولية تحكمها مصالح دول وسياسات عليا، قد يكون الدين عنصرا فاعلا فيها ولكنه ليس العنصر الوحيد. الدين في السياسة الدولية قد يستخدم كوسيلة دعاية، ولكن قلما أن يكون من المحركات الرئيسية للسياسة الدولية. دارسو العلاقات الدولية يعرفون أنه خلف الشعارات الدينية تقبع مصالح دنيوية ليست غالبا مثالية كما يدعي أصحابها. ففي حرب البلقان في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وقفت أوروبا وأميركا ضد الصرب في أزمة البوسنة، قاتل الأوروبيون والأميركيون وقتها نيابة عن المسلمين.

ويكون من السذاجة أيضا أن نتصور بأن مجتمعا أغلبه مسيحي، كما الولايات المتحدة وأوروبا، سيقف «لوجه الله» مع المسلمين. الحقيقة أن أميركا كدولة مع حلفائها من الدول الأوروبية استخدمت قضية البوسنة خاصة، وأوروبا الشرقية بوجه عام، لتصفية ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي ونفوذه في القارة القديمة. موقف الولايات المتحدة وأوروبا من مسلمي البلقان اليوم هو أشبه بموقفهما البارحة مع المجاهدين الأفغان في حربهم مع الخصم ذاته في آسيا وهو الاتحاد السوفيتي.. معهم اليوم وقد ينقلبون عليهم غدا أو لا ينقلبون وفق مصالح الأميركان لا مصالح الألبان. هناك البعض ممن يمحون هذه التفاصيل من التاريخ من أجل تقديم صورة عالم يتصارع فيه المسلمون والمسيحيون. قد يكون الشرق الأوسط في إحدى صور صراعاته العديدة هو هذا العالم، ولكن ليس بالضرورة ما ينسحب على الشرق الأوسط ينسحب على بقاع الأرض كلها. وقد يتوارد إلى ذهن البعض أن الحروب الصليبية، أو حتى الفتوحات الإسلامية، هي أوضح صور الصراع الديني. صحيح، ولكن يجب ألا يغفل عن أذهاننا بأن أحد الفوارق المهمة بين الحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية وبين حروب اليوم، هو أن عالم الدول في هذا الزمن يختلف عن عالم التكوينات العملاقة (الإمبراطوريات) التي جرت في زمنها هذه الحروب، وأن معاهدة ويستفاليا عام 1648 التي أنهت الحروب الدينية بين الإمبراطوريات الكبرى، الإمبراطورية الرومانية والفرنسية وحلفائهما، كانت الحدث الفارق بين ظهور الدولة الحديثة والإمبراطوريات القديمة، ولكل خصائصه. العلاقات الدولية، كما نعرفها اليوم، هي عالم ما بعد ويستفاليا وليس قبلها.

إذن في ضوء ما سبق، هل بالإمكان أن نتوقع في المدى المنظور مشهدا مماثلا في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أي أن نرى الفلسطينيين يرفعون العلم الأميركي بينما الإسرائيليون يحرقونه؟ هذا المشهد ليس من المتوقع أن يحدث قريبا بالطبع. لكن فكرة أنه لن يحدث أبدا، ولا يمكن أن يحدث في أي زمان أو مكان، بالطريقة التي يتحدث بها البعض، هو نوع من التشاؤم المفرط وتغليب عالم المشاعر والعواطف على عالم المصالح والمنطق الحاكم لعلاقات الدول. قد تأتي لحظة تتناقض فيها المصالح الأميركية والإسرائيلية بما يخدم مصلحة الفلسطينيين، وهذا وارد جدا في العلاقات الدولية. والحقيقة أن أحد أسباب غياب أي تناقض بين المصالح الأميركية والإسرائيلية هو إصرار العرب لزمن طويل على الابتعاد عن الولايات المتحدة بافتراض أنها عدو مطلق ومستمر وثابت، بغض النظر عن إصرار إسرائيل في الوقت نفسه على التقرب من الدولة الكبرى.

المنطقي أن تكون مصالح الولايات المتحدة مع الدول العربية مجتمعة، بما فيها من موارد طبيعية وبشرية وطاقة نفطية وغاز، أكبر مئات المرات من مصالحها مع دولة صغيرة بحجم إسرائيل قليلة السكان والموارد والمنافذ. ولكن إسرائيل، التي تعلن، على عكس العرب، بأنها حليفة وصديقة للولايات المتحدة تجعل الأميركيين، حكومة وشعبا، مقتنعين تماما بأن إسرائيل هي حليفهم الوحيد في المنطقة، وأن مصلحة إسرائيل هي مصلحتهم وبالتالي أي خطر يتهددها هو خطر على أميركا.

حديث العرب عن أميركا بمعظمه هو حديث كراهية. وقد تكون مصر هي المثال الأوضح هنا. في مصر حملة كراهية لأميركا تقودها قطاعات كبيرة في المجتمع المصري، ولو قرأنا المشهد المصري بحيادية في هذه الحالة الخاصة أي (العلاقة الأميركية ـ المصرية على المستويين الحكومي والشعبي) لبدا الأمر عجيبا. بداية، ليست هناك حدود تستوجب صراعا كما ليست هناك معارك سابقة بين مصر وأميركا. ومصر هي ثاني أكبر متلق للمعونة الأميركية. ومصر تجري مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة بشكل دوري. وفي العاصمة المصرية القاهرة توجد أكبر سفارة للولايات المتحدة في الشرق بعد العراق، مما يعكس كبر حجم المصالح بين الدولتين. فإذا كانت كل هذه المؤشرات الإيجابية وكل هذا التعاون بين البلدين، فمن أين أتت الكراهية؟ الرد الجاهز هو أن المصريين بتعاطفهم مع العراقيين والفلسطينيين كرهوا الأميركيين (في السكة)!

وطبعا عداء دولة كبرى بحجم الولايات المتحدة يرضي الغرور، على مبدأ «إذا سرقت اسرق جملا، وإن عشقت اعشق قمرا»، وإن عاديت عادي الأميركان. فالبعض يريد عدوا عظيما يليق به! فلا يمكن أن يعادي نيكاراغوا مثلا، أو خصوم الداخل الصغار، اللعب مع الصغار يقلل من الهيبة. فالبعض «يحب العالي ولو على خازوق»، كما يقول المثل. وما ينسحب على مصر ينسحب على كثير من الدول العربية. نحن نريد أن نلعن أميركا كل يوم، وعلى أميركا أن تتحالف مع مصالحنا وهي صاغرة.

علاقة الولايات المتحدة بالعراق في ثمانينات القرن الماضي، كانت توحي بأن أميركا ستكون في صف العراق إذا ما دخل في أية خصومة. وهذا كان موقف الولايات المتحدة فعلا في الحرب العراقية ـ الإيرانية التي امتدت لثماني سنوات. وكانت علاقة أميركا بالعراق أقوى بكثير من علاقتها بالكويت، فالعراق دولة أكبر وأغنى من الكويت، ولكن عندما تجاوز صدام حسين الخطوط الحمراء للمصالح الأميركية في المنطقة بغزوه الكويت في أغسطس 1990، تغيرت الحسابات الأميركية تماما لدرجة توجيه ضربة عسكرية أميركية قوية ضد حليف الأمس، ضربة أخرجته من أرض الكويت، ثم بعد ثلاثة عشر عاما ضربة أخرى أخرجته من الدنيا بأكملها.

لو كانت الولايات المتحدة تتعاطى مع الدول الأخرى باعتبارها حليفة دائمة أو عدوة دائمة، لكانت أيدت غزو صدام للكويت باعتباره حليفها السابق. وخصوصا أنه لم يكن يوجد «لوبي» كويتي قوي يضغط على الحكومة الأميركية وقتئذ. إلا أن الأميركان وقفوا مع الكويت ضد عراق صدام، ورأينا مشهدا شبيها بما نراه في كوسوفو وصربيا اليوم.. الكويتيون رفعوا العلم الأميركي بينما كان العراقيون يحرقونه.

قد تبدو حروب أميركا في العراق وأفغانستان والبلقان غير مفهومة حيث لا يوجد بينها رابط مفهوم، لكن الناظر إلى الأمور ضمن منظور استراتيجي يرى أن حروب وتحالفات الولايات المتحدة في هذه الفترة الانتقالية للنظام الدولي من الثنائية القطبية إلى نظام أحادي القطبية، هي حروب بقصد لملمة وتنظيف بقايا ونفايات الحرب الباردة.. حسابات لا يدخل، بكل تأكيد، الدين فيها.