الانتخابات الأميركية.. ومستقبل العرب!

TT

بما أننا اتفقنا منذ زمن على حقيقة أن الإعلام العربي بمجمله مستقبل للخبر، لا صانع له، فمن الطبيعي أن تنشغل وسائل إعلامنا العربية بفوز أوباما على هيلاري كلينتون في أكثر من ولاية وبحقيقة أن هيلاري أصبحت محاصرة، بينما غدا من الواضح تقريباً أن جون ماكين سيفوز بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة. وتتّجه المؤشرات إلى أن المعركة الانتخابية قد تكون بينه وبين باراك أوباما. ولكن مهما كان مصير هذه التوقعات المبكرة فإن الحقيقة التي يعيها العرب هي أنه، كائناً من كان في البيت الأبيض، فإن هذا لن يغير في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، ولن يكون له أي أثر يذكر على حقوق العرب في فلسطين والجولان ولبنان والعراق والسودان، وعلى طبيعة الصراع الدائر في المشرق العربي. ذلك لأنه، ورغم الاهتمام الإعلامي الكبير بما يحدث، والتسويق الكفء للأفكار والنيات والتغييرات المعتزم إحداثها، فإن حقيقة الأمر هي أن لدى الولايات المتحدة كدولة عصرية، استراتيجية كونية، ومصالح محدّدة، ورؤية لا يستطيع من يعمل في المكتب البيضاوي أن يحيد عنها، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، رجلاً أم امرأة، أسود أم أبيض، ومهما كانت ميوله الشخصية أو أهواؤه السياسية، أو انتماءاته العقائدية. هذا لا يعني أن تغيير الشخص لا يُحدثُ أي أثرٍ في الحياة الأمريكية، وأن الجميع يتساوون، ولكنه يعني بالتأكيد أن الشخص ليس حاكماً إلا ضمن نخبة، ولذلك فهو ملزم بوضع خطط للتوصل إلى الأهداف المرسومة أصلاً في الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة خاصة تجاه النفط، وإسرائيل.

مهرجانات التنافس الانتخابي التي نراها كل أربع سنوات بين مرشحي الحزبين الوحيدين منذ تأسيس الولايات المتحدة، لا تعني، بالتأكيد، تغيير الأهداف والرؤى والسياسات الخارجية الاستراتيجية، وإنما التنافس هو على أفضل الأساليب وأنجعها لتحقيق هذه الأهداف والرؤى والسياسات. وهذا دون شك دليل على قوة المؤسسات السياسية ومتانة بنيتها، وكفاءة أدائها، وهي دون شك يُشهدُ لها بأنها من أفضل المؤسسات المماثلة لها عالميا وإدارياً. وهنا يبدو الفرق جليّاً، وقد يكون محبطاً، بين نظام يعتمد على آليات عمل تبرر له، حتى شن الحروب وقتل الملايين، وأنظمة أخرى غير قادرة على الدفاع عن حقوقها رغم انسجام هذه الحقوق مع كل الشرائع والقوانين الدولية.

ومن هنا أتى التراكم المعرفي لدى النخبة الحاكمة المتوزعة بين إدارات الولايات، والكونغرس والرئاسة في السياسة والإدارة والاقتصاد، لأن أحداً لا يستطيع أن ينسف ما بناه غيره بل أن يزيد عليه، أو يعيد اختراع البارود من جديد فقط من أجل الادعاء بأنه هو وحده البداية والنهاية، ولولا فرادته لكانت أمريكا كلها في بلاء عظيم. بغض النظر عن الموقف المشين للإدارات الحاكمة المتعاقبة على الولايات المتحدة من قضايانا فإن الطريقة التي تؤدي بها هذه الإدارات واجباتها في تنفيذ سياسات الولايات المتحدة ودعم مصالحها جديرة بأن تدرس وتستخلص منها العبر والخبرات والمعرفة في الإدارة، بما في ذلك التخطيط السياسي المتعدد المدد لكل جوانب السياسة الخارجية، وخاصة تأثير المتغيرات الدولية القائمة والمتوقعة على المصالح الوطنية.

وإذا ما قارنا هذا الوضع بما جرى في عالمنا العربي بعد تحرره من الاستعمار الأجنبي في منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، نجد أن معظم الأقطار عانت إما من نظم ركنت إلى تقاليد ما قبل الدولة العصرية، أو إلى نظم متقلبة تعتمد على إلغاء مرحلة وبدء أخرى من جديد، وفي الحالتين يدخل العامل الفردي كمبدأ أساس في تحديد هوية الدولة وسياساتها وأهدافها. نلحظ اليوم هذا الفرق بين الحياة العربية والأخرى التي نشهدها في الغرب أو الشرق. فالعربي كفرد يكون مبدعاً ومتميزاً، ولكن العرب، كمجموعة دولية، عجزوا عن استخدام أسلوب العمل الجماعي المنتج الذي يجمعه هدف واحد ورؤية واحدة لا تتغير باختلاف الأفراد. وقد يفسّر هذا إبداع بعض العرب في بلدان الغرب والشرق، أكثر أحياناً من إخوانهم المقيمين، وذلك لأنهم يجدون أنفسهم ضمن نظم مدروسة وفعّالة فينخرطون بها ويبدعون. لقد أصبحت الهوّة اليوم واسعة بين العرب، كمجموعة، وبين أية مجموعة أخرى، في الغرب أو الشرق، ذلك أن العرب يعالجون جراحهم يوماً بيوم، ويطفئون حرائقهم كلّ بمفرده، دون أن تجمعهم نخبة فكرية حاكمة مستمرة على مدى عقود، بغضّ النظر عمّن يفوز اليوم أو يغادر غداً.

من الملاحظ أنّ روسيا والصين والهند ودول آسيان قد بدأت هي الأخرى بإنتاج النخب الحاكمة التي تضع الاستراتيجيات وتحدد الأهداف العريضة وتترك للتنافس الوطني أن يملأ الملاكات هنا وهناك، بشكل يعزّز الأداء ويبلور الهدف ويحققه. النخب الحاكمة في الغرب والشرق تعمل على أساس أنها مؤقتة لا دائمة، وتعمل استكمالاً لما تم قبلها، وتحضيراً لما سيأتي بعدها. أمّا النخب العربية فيفيض الحاضر على يمينها وشمالها وأمامها وخلفها، وما أن يصبح هذا الحاضر ماضياً حتى يختفي تماماً عن السّاحة وكأنه لم يمر يوماً من هنا أبداً. ومن هنا ينشغل العرب بمتابعة معطيات خارجة عن نطاق ارداتهم، بدلاً من أن ينشغلوا بخلق المعطيات الحقيقية بإرادتهم القادرة على توجيه المستقبل الوجهة التي يريدون. حتى إن ما يعالجونه اليوم من قضايا يكاد يكون خارج السياق، نتيجة غياب الاستراتيجيات والرؤى. وكم يستفيد المتربّصون بأمتنا من نقطة الضعف الفظيعة هذه، فتراهم يقدّمون للعرب أموراً آنيّة لا علاقة لها بمسار المستقبل كي يحصلوا منهم على تنازلات تمسّ جوهر مستقبلهم ومصالحهم وحقوقهم وهويتهم. هم يفكّرون بقيمة هذا التنازل لأجيالهم بعد عشرين سنة، بينما العربي يفكّر بصورته في الجريدة في اليوم التالي وماذا سيقول عنه الآخرون! وفي غالب الأحيان المجاملات هي سيدة الموقف، لأن المهمّ هو رضا الآخر وليس القناعة أو التقييم الموضوعي لما تمّ إنجازه من خطوات باتجاه الهدف المرسوم والمنشود.

وقد وصل الحال بنا إلى درجة أننا بدأنا نستخدم لغة الغير، حتى في وصف أنفسنا، ولا نتجرأ بأن نتحدث خارج الإطار الذي ترسمه لنا دوائر الأعداء. حيث أصبحتُ أقرأ أخبار العرب في الجرائد العربية وكأنها أخبار مترجمة. وهل يعقل أن نرى صور مجزرة إسرائيلية لأطفال فلسطينيين لا يمكن أن نعثر على أسمائهم أو صورهم في معظم الجرائد العربية، وهل يعقل ان يطالب البرلمان الأوروبي إسرائيل برفع الحصار عن الشعب الفلسطيني وفتح المعابر مهدّداً باحتمال حدوث تغيير شامل في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه حماس، في الوقت الذي يشاهد فيه العرب ما يكابده الفلسطينيون من قتل وتجويع وهدم منازل وإجرام ثمّ يخلدون للنوم!

أو هل يعقل أن يكتب الكاتب اليهودي الاسترالي أنطوني لوينستاين عن المقارنة بين حرمان ومعاناة الأبورجنز في استراليا على يد المهاجرين البيض منذ مئتي عام وبين معاناة وألم الشعب الفلسطيني من أساليب القتل والقمع ذاتها التي مورست ضدّ الأبورجينز، ويطالب جميع يهود العالم بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في معاناته، بينما يتجنب الساسة العرب هذا الموضوع؟

لا شك أن البعض منا سوف يكتشف في نوفمبر 2008 أنه انتظر سراباً، كائناً من كان من سيدخل البيت الأبيض، لأنه سيدخل هناك لتحقيق الاستراتيجية الأمريكية المبنية، فيما يخصّ منطقتنا، على دعم التفوق الإسرائيلي وإذلال العرب واغتصاب حقوقهم المشروعة.

www.bouthainashaaban.com