التوغل التركي في شمال العراق: سبل إيقافه

TT

فاجأتنا القيادات العسكرية والسياسية التركية بعد اجتماع مجلس الأمن القومي المطول الأسبوع المنصرم بقرار بدء الهجوم البري في شمال العراق حيث يتمركز حزب العمال الكردستاني بقواته وقواعده. حملة كنا نتوقعها في مطلع الربيع المقبل لكن أصحاب القرار في أنقرة رجحوا على ما يبدو مطاردة انصار هذا الحزب في البرد القارس وهم في مخابئهم الجبلية على ملاحقتهم بين الغابات والاحراش حيث تتنوع المخابئ ويرتفع حجم الخسائر.

يبدو أيضا ان الغارات الجوية المتلاحقة التي نفذتها المقاتلات التركية ضد مواقع هذه الجماعات لم تحقق النتائج العسكرية والسياسية المطمئنة على الأرض والتي ستكون كافية لدفع حكومة العدالة والتنمية التركية لإطلاق حملة اصلاحات وتغيير في سياستها الكردية الداخلية يطالبها بها الاتحاد الأوروبي وواشنطن بالدرجة الأولى.

ما يستوقفنا على هامش العمليات العسكرية في شمال العراق هو نجاح الدبلوماسية التركية في لعب ورقة دوافع ما يجري وقدرتها على تحييد العديد من القوى الاقليمية والدولية وتركها أمام خيار الترقب أو دعم هذه العمليات شرط أن تكون محدودة الأهداف والأبعاد وأن تنتهي بأسرع ما يمكن وهو ما تقوله أنقرة اساسا وعلى لسان كبار قادتها السياسيين والعسكريين حول أن ما يجري له علاقة مباشرة بحماية العراق ارضا وشعبا ومؤسسات.

هل يكون الرئيس العراقي جلال الطالباني بتصريحاته الأخيرة حول عدم قدرة البشمركة الكردية على مطاردة واعتقال انصار حزب العمال وتسليمهم الى تركيا ووقوفه في وجه توقيع وتمرير الاتفاقيات الامنية التي حملها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من أنقرة حول تعهدات بتصفية نشاطات هذا الحزب، عاملا سهل الطريق أمام اطلاق العمليات الحربية الاخيرة؟ وهل تأتي ردود فعله حول ما يجري في شمال العراق ودعوة الرئيس عبد الله غل الموجهة اليه وسط هذه الظروف لزيارة أنقرة في أقرب وقت لتكون كافية ومطمئنة؟

ما سهل للقوات التركية التوغل في شمال العراق هو الحالة السياسية والأمنية المتردية هناك وفشل الحكومة المركزية في اطلاق مشروع مصالحة سياسية شاملة تطمئن الشرائح العرقية والدينية بحماية حقوقها ومطالبها.

ما يوقف القوات التركية ويعيدها الى ما وراء الحدود هو قرار عراقي سياسي داخلي عاجل بالجلوس مرة اخرى أمام طاولة واحدة لتبادل الأفكار والخروج بقرارات ملزمة تنفذ وتحترم تعيد العراق بشماله الى بغداد وتحمل بغداد مرة اخرى الى نقطة الحدود العراقية ـ التركية وهي فرصة سيستغلها عقلاء السياسة العراقية دون تمييز قومي أو عرقي أو انتماء ديني.

ما يوقف القوات التركية هو أيضا مسارعة جامعة الدول العربية للتحرك باتجاه مطالبة الحكومة المركزية العراقية استغلال هذه الفرصة واستعدادها للعب دور الوساطة بين بغداد وأنقرة وهي وقفة تاريخية لاستعادة العراق الموحد المتكامل الأجزاء وقطع الطريق على محاولات انزال الضربة القاضية التي يريدها البعض على طريق الانفصال والتفتيت.

نقطة أخرى تستوقفنا وهي أن خيارات تحديد مسار العمليات العسكرية وتوقيتها وأهدافها لن يترك لقيادة الجيش التركي أو حكومة رجب طيب أردوغان وحدها رغم البيانات والتصريحات الموجهة نحو أكثر من طرف في الداخل والخارج. وإعطاء الاحداث والمتلاحقات بعدا جديدا مغايرا سيكون أيضا بيد لاعبين اقليميين ودوليين كثر وكلما أسرع الداخل السياسي العراقي بالتحرك لتلقف الرسالة كلما عجل بقطع الطريق على المزيد من التصعيد.

العدالة والتنمية التركي، كما فاجأنا بإطلاق هذه العمليات يحمل لنا في جميع الأحوال مفاجأة أخرى في موضوع شمال العراق فهو يعد نفسه لمعركة انتخابية مقبلة على مستوى البلديات ويخطط لاسترداد مدينة ديار بكر عاصمة جنوب شرقي تركيا من حزب المجتمع الديمقراطي ومن هنا فهو لن يغامر بهذه السهولة بتعريض هيمنته السياسية الكاملة على مراكز القوى في البلاد لأية مخاطر خصوصا أن عواصم غربية كثيرة تراقب عن كثب مسار عمليات الاصلاحات التي وعد بها أردوغان على طريق العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك فأنقرة التي طالما تجاهلت اختراق الكثيرين لنقاطها الحمراء التي وضعتها في السنوات الأربع الأخيرة لن تعود ادراجها هذه المرة اذا لم تحظ بالضمانات الكافية لعدم تعريض امنها واستقرارها للتهديد .. ولنفهمها نحن على انها معادلة تحمل أكثر من بعد بينها حماية وحدة العراق وتماسكه الفرصة التي يريدها البعض اذا ما احسن بإمساك رأس هذا الخيط وسحبه نحوه بدقة وحذر.

* أكاديمي وكاتب تركي