قمة لا تنقذ من الحضيض

TT

قبل يومين دعت إحدى الصحف الحكومية السورية، القادة العرب إلى المشاركة في «قمة دمشق» المرتقبة يومي 29 و30 مارس (آذار) المقبل «بقلوب مفتوحة وعقول مستنيرة وبإرادة الحوار والوفاق، ولنعمل معا كأمة واحدة تتعرّض لمخاطر واحدة». واعتبرت أن الفرصة ما زالت متاحة اليوم لحل الخلافات ونبذها والتنبّه للمصدر الحقيقي للمخاطر».. لكن في الغد لن يكون بالإمكان معالجة ما فشلنا في معالجته اليوم، ولإنقاذ ما يمكننا اليوم إنقاذه. إنه جرس إنذار إن كانت هناك آذان تسمع وعيون ترى».

وبما أن المحاضرات الأخلاقية لا تكتمل إلا بتوجيه أصابع الاتهام، هاجمت الصحيفة مَن يصبّ «الزيت على نار الأزمات والخلافات ويؤجّج الأوضاع» على أساس أن «الوضع العربي لا يحتمل مزيداً من الخلافات والانقسامات والمهاترات التي لا تخدم إلا أصحاب الفوضى والحروب وحُماة المشروعين الصهيوني والأميركي».

لا جديد إذاً في دمشق.. ومن العبث توقّع أي تغيّر في مقاربتها للوضع العربي، منذ خطاب «أشباه الرِّجال» الشهير.

ففي أدبيّات دمشق المحفوظة عن ظهر قلب، احتكار كامل تقريباً للعروبة، وكذلك لـ«الممانعة» والصّمود والتصدّي والنضال ضد الصهيونية والإمبريالية الأميركية، أما باقي العرب فعليهم الخضوع لفحوص الوطنية الدّورية، وإذا اعترضوا يُرفع في وجوههم خيارا الابتزاز والتهديد.

هذه السياسة أثبتت حتى الآن نجاحاً طيباً في عالم عربي واضحٌ، انه لا يفهم إلا لغة الابتزاز والتهديد.

فبدلاً من أن يكون الحكم في سورية الجهة الأحرص على نجاح القمة المقبلة والأكثر تسهيلاً لتوصلها إلى التفاهمات المرجوّة للصالح القومي، نرى أن بعض العرب هم الذين يجرّون الأذيال ويتوسّلون الرضى بأي ثمن.. بينما لبنان على شفير الهاوية، والأراضي الفلسطينية في حالة انقسام وفتنة، والعراق مهدّد باحتلال ثانٍ واقعي يفاقم الاحتلال الفعلي، ومنطقة الخليج في ارتباك من وجود تغطية عربية للطموح الإقليمي لـ«محافظي» طهران.

أكيد.. المشروع الصهيوني مصدر خطر دائم على المنطقة برمّتها، وكذلك مشروع «المحافظين الجُدد» الأميركيين التفتيتي، ولكن ثمّة نقاط يجب أن تثير الاستغراب، عند التفكير الجدّي بعيداً عن الشعارات الفارغة.

من هذه النقاط، مثلاً، أن تجاهل هواجس الجبهة الداخلية في أي كيان سياسي يسهّل مهمة المؤامرات الخارجية الهادفة إلى تقسيمه وتفتيته. وهذا ما هو حاصل اليوم في لبنان، حيث تحوّلت «المقاومة» تدريجياً من نقطة تلاقٍ وإجماع إلى «بعبع» وموضوع انقسام وطني. وهذا ما انتهى إليه الوضع الفلسطيني مع سقوط مقولة «حرب الأخوة.. خط أحمر»!

ثم ان خطاب بعض العرب وحلفائهم يتجاهل، عن حقٍ أو عن باطل، الهواجس الإقليمية أيضاً. فكما أن عند اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والأردنيين والمصريين حالة عداء مع إسرائيل، ترى بعض دول الخليج في إيران مصدر خطر يهدد أمنها، ويرى بعض العراقيين في تركيا عدواً لا يؤمن جانبه. وأضف إلى ما سبق الاختلاط العجيب في المواقف إزاء إسرائيل. فليس سراً أن تل أبيب كانت وراء توجيه واشنطن الدعوة إلى سورية لحضور «مؤتمر أنا بوليس». وليس سراً أيضاً أن الموقف الإسرائيلي الرسمي يقوم منذ زمن طويل على أساس الحفاظ على استقرار الوضع الراهن في دمشق «لأنه أفضل من أي بديل مطروح». ثم ان واشنطن نفسها لم تتكلّم ولا تتكلّم اليوم عن «تغيير النظام» في دمشق بل عن «تغيير سلوكه». عودة إلى موضوع القمة، اعتقد أنه يجب النظر إلى فكرة القمم العربية على أنها «وسيلة لا غاية».

إنها ملتقيات للتحاور المنهجي الصريح من دون لفٍ أو دوران، وليست مهرجانات يسوّق فيها هذا النظام أو ذاك، هذا الزعيم أو ذاك، هالته أمام جماهيره الشعبية عبر إعلام موجّه مسطّح يضيق بالنقد.. ويخوّن المنتقدين.

وبالتالي، فما المشكلة في أن تفشل قمم أو تؤجل إذا كانت الحقيقة المرّة وجود خلافات عميقة تمسّ الأسس المفترض أن تبنى عليها العلاقات العربية العربية؟

إن المقاطعة أفضل من بيانات باهتة تهرب من واقع الحال. وكشف أسباب الخلاف على الملأ وتحميل الأفرقاء المعنيين مسؤولياتهم، أقل ضرراً على المدى البعيد من التستر على سياسات خاطئة قد تجرّ المنطقة كلها نحو المجهول.

ثم، ان كلام الصحيفة السورية يعبّر عن موقف رسمي لدمشق، وفيه إقرار بأن الخلافات موجودة. فلماذا يجب انتظار القمة لبتها فيها.. وليس قبل انعقادها؟ وهل سعت دمشق التي تستضيف هذه القمة، حقاً، إلى التعاون مع شقيقاتها لتذليل كل ما يعترض سبيل القمة من مشاكل؟

إن الأجواء العامة المحيطة بالقمة توحي أن دمشق، المستقوية ـ لتاريخه ـ بالحليف الإيراني، غير مستعدة لأي تسويات لا تطلق يدها في ما تعتبره «مناطق نفوذها» الإقليمية. كما أن عدداً من الذين حاولوا خلال الشهور الفائتة التفاوض مع دمشق في المسائل التي تعتبرها «لها وحدها»، ومنهم مجموعة من الموفدين الأوروبيين، أدركوا استحالة الخروج بنتيجة من أي حوار جدّي.

فهي تطلب ثمناً باهظاً، وتبدو مستعدة لانتظار أي من المتغيرات التالية:

ـ تغيّر مناسب في السياسة الأميركية بعد انتخابات الخريف المقبل يعيد الحرارة إلى علاقات دمشق وواشنطن.

ـ يأس العرب وقنوط الأوروبيين من مسلسل «المماحكة» الابتزازي الذي تجيده دمشق منذ زمن طويل. خاصةً، أن اهتمامها ببعض الملفات أقوى بكثير من اهتمام باقي العرب، وحتماً دول أوروبا.

ـ كسب مزيد من الوقت الذي قد يساعد على الإجهاز على خصومها في عدد من بؤر التوتر التي تغذيها من حولها.

ـ كسب مزيد من الوقت لحليفها الإيراني في معركة «عض الأصابع» النووية بينه وبين واشنطن والمجتمع الدولي.