قرب الحبيب

TT

الشيء بالشيء يذكر. ولذلك استعدت ذكرى عمرها اربعون عاما بسبب اغنية. تذكرت استاذا تعلمت على يديه مبادئ اللغة اللاتينية وانا اخطو اولى خطواتي في الدراسة الجامعية. بصراحة كانت المفردات اللاتينية تحيرني، خاصة ان علاقتها بمفردات اللغات الاخرى غابت عني في ذلك الوقت. لم اكن استسيغ ان يدعى الفلاح: (اجريكولا). وان تسمى الحرب (بيللوم). وكنت اجلس في المحاضرات انتظر ان يجمع الاستاذ اوراقه ويرحل. ولكنه ذات يوم ترك الاجريكولا اللاتيني في حقله وخاطبنا نحن الطلاب والطالبات الذين لم يكن اكبرنا تجاوز السابعة عشرة او الثامنة عشرة بخصوص حقل مختلف تماما استحوذ على انتباهنا جميعا بمن فيهم انا.

كانت اغنية الراحلة فايزة احمد: يامة القمر ع الباب، رائجة رواجا شديدا. وعز على الاستاذ ان نكون نحن ابناء الجيل الصاعد متلقين لمثل ذلك الفن الهابط جملة وتفصيلا. كان غاضبا على كاتب الكلمات والملحن والمطربة والاذاعة والأهالي الذين يسمحون لأولادهم بتلقي تلك الأغنيات. جلسنا صامتين، ربما لان كلا منا كان ينتمي لأسرة تشارك الأستاذ انفعالاته. فقد ذكرتني غضبته بوالدي يرحمه الله حين فطن يوما الى اننا نسمع اغنية -لا تكذبي- وهي من كلمات شاعر معروف والحان موسيقار عبقري. عنفنا الوالد لأنه احتج على كلمات الاغنية، خاصة ما يتعلق منها بتلاقي العينين والنظر الى الشفتين وارتعاشة اليدين. ارغى الوالد وازبد وهدد بتحطيم المذياع ان تجرأ احدنا وانصت لتلك الاغنية بالذات مرة اخرى.

تذكرت استاذي ووالدي وانا جالسة مع زوجي في مكان جميل على ساحل البحر الاحمر نتناول طعاما. كان في المطعم تخت شرقي يطربنا بعزف مقتطفات من موسيقى الاغاني القديمة ومنها اغنية يامة القمر ع الباب. فسألني زوجي ان كنت تعمقت في الاغنية وما ترمي اليه من معان اجتماعية. فتذكرت حديث استاذي عنها ورويت لزوجي ما كان من امري في ذلك اليوم. وعندها فاجأني قائلا ان الاستاذ لم يكن على حق. فالاغنية تتحدث عن فتاة تكتشف انها انثى وان الانثى تجذب الذكر وان احساسها بتأثير انوثتها يغبطها ومع ذلك لا تترك لاحساسها العنان. فهي تخاطب امها طلبا للمشورة وطلبا لتلبية احتياج ملح. وان الاغنية ترسم ملامح مجتمع بني على احترام الجماعة وقبول سلطة الابوين والعمل وفقا لاصول اجتماعية واعراف. فالفتاة تقول لامها مجازا ان القمر جاء طالبا السماح بالدخول. وتسأل: هل يبقى الباب مغلقا ام يسمح لنور القمر بالدخول؟ ثم تتحول البلاغة الى وصف الرغبة في وصال المحبوب بالظمأ وأنه قصد بيتهم بالتحديد لأن احدا من الجيران رسم له الطريق الى البيت. فجاء وانتظر وتحمل انتظارا للسماح له بأن يروي ظمأه. وتسترسل الكلمات مناشدة الام ان تعترف باحتياج ابنتها لوصال الحبيب واحتياج الحبيب للارتواء. وان الام لو سمحت بوصال الحبيبين عملا بالاصول تربح عند الله ثوابا.

اذن فهي اغنية تؤرخ لديناميكية العلاقة بين الام وابنتها ولاصول اجتماعية متعارف عليها ضمن اطار اخلاقي لا تتحداه الاغنية كما تفعل اغاني هذه الايام.

اقتنعت بكلامه كما انا مقتنعة بأنه من حق كل جيل ان يختار مفرداته الثقافية. ولكن كيف ستنظر الاجيال المقبلة الى ثقافة: حبيبي قرب بص بص بص؟ والطرب ماركة نانسي؟