«وش خانة الكويت؟»

TT

«وش خانة الكويت؟»، عبارة بالدارجة المحلية لوسط السعودية، ومعناها ما هي فائدة «خانة» الكويت، وقصة هذه العبارة الظريفة، أن شاباً من أهالي القصيم، وسط السعودية، ضاق ذرعا من شروط الحياة الاجتماعية والدينية في محيطه، وخصوصا إيقاظه الدائم لأداء صلاة الفجر في المسجد، فهاجر الى الكويت، حيث الفسحة أوسع، قطع الفيافي، ووصل الكويت ليلا وهو منهك وألقى بجسده الى الفراش. وما هي الا هنيهة حتى سمع طرقا شديدا على الباب، فقام فزعا، قال له الطارق: قم لصلاة الفجر، فرد محبطاً: «وش خانة الكويت؟».

بصرف النظر عن صحة القصة من عدمها، وبعيداً أيضا عن الدخول في أي نقاش ديني، وبعيدا عن الحديث الدقيق والجاد عن طبيعة وحقيقة الانفتاح والانغلاق في القصيم والكويت، بعيدا عن هذا كله، فقد تذكرت هذه القصة البالغة الدلالة وأنا أتابع ما جرى في الكويت وشواغل الرأي المحلي طيلة الأيام القليلة الماضية، فهو شيء غريب فعلا، يجعلك تتذكر هذه العبارة الظريفة.

انشغل الكويتيون بموضوع الاختلاط في التعليم الجامعي، بين مَنْ يقدم نفسه باعتباره حامي حِمَى الفضيلة، ومن يرى أن دعاة المنع ليسوا إلا أنصارا للتعصب ومحاربين للانفتاح. وما إن وصل الجدل ذروته حتى غطت سحابة أو عاصفة النائبين الشيعيين عدنان عبد الصمد واحمد لاري على كل شيء، فبسبب حديث عبد الصمد الساخن في رثاء القائد العسكري لحزب الله، عماد مغنية، الذي اغتيل في دمشق، انفجرت مشاعر الغضب في الشارع الكويتي، لأن عبد الصمد ألقى في تجمع تأبيني خطبة مثيرة نعت فيها مغنية بأزكى الألقاب ونفى مسؤوليته عن الارهاب الذي مس الكويت طيلة الثمانيات. الغاضبون قالوا ان عبد الصمد ولاري والتحالف الوطني الكويتي، او حزب الله الكويت كما يقال، طعنوا أهل الكويت في ظهورهم.

الحملة غير مسبوقة، الأمر الذي جعل كتلتهما البرلمانية المعارضة، (الشعبي) غير قادرة على تجاهل الحملة، فطلبت من عبد الصمد ولاري اعتذارا صريحا للشعب الكويتي؛ النائبان قدما خطابا توضيحيا وليس اعتذارا، ففصل التكتل الشعبي النائبين.

الأمر لم يقف عند هذا الحد، فكانت هناك مطالبات بفصلهما من البرلمان، وصعَّدَ البعضُ فطالبوا بسحب جنسيتهما وسجنهما او طردهما خارج البلاد. وحينها تدخلت الحكومة وطالب وزير الداخلية بإحالتهما الى النيابة، وبالفعل جرى ذلك. والحملة لم تتوقف. ويحدثني صديق اعلامي كويتي ان المسألة أخذت أبعادا خطيرة لدى الناس العاديين، وصار الحديث عن شيعة/ سنة، وغذت هذا الحديث الطائفي المقيت بعض القوى المستفيدة من تغذيته، إما لأسباب خصومة سياسية وإما مصلحية مع هذا الطرف السياسي، او من قبل قوى اصولية سنية تعادي الشيعة لأسباب عقيدية خالدة.

شخصيا، وبكل وضوح، اعتقد أن رثاء عبد الصمد ولاري والتحالف الوطني لمغنية خطيئة يجب ان يقرعوا عليها، خصوصا من الكويتيين الذين مسهم شر مغنية سواء عمل لحزب الدعوة او لمنظمة الجهاد او لحزب الله، فكلها عناوين لبيت واحد. واعتقد أن عبد الصمد ولاري تصرفا بدوافع آيديولوجية وهوى حزبي بحت. وكانت اعينهم مغلقة باتساع على الانتماء للآيديولوجيا الشيعية السياسية أكثر من أي شيء آخر.

أعتقد هذا جازماً، ولست ممن يرون مغنية قديسا او بطلا بل نسخة قريبة من بن لادن في الطرف السني، لا بل ربما كان أكثر تعقيدا وغموضا بسبب علاقاته الواسعة مع مخابرات ايران وسوريا. لكن هذا شيء، وتحويل الحملة على النائبين الى حملة على شيعة الكويت كلهم أمر آخر، بل ربما كانت، بهذه الطريقة الجماعية، اخطر وأكثر ضررا. هنا يجب ان نميز بشكل دقيق بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية، فكون عبد الصمد او لاري ومن معهما أخذوا موقفا مطابقا لموقف حزب الله واشتركوا في حفلة التقديس لعماد مغنية، لا يعني ان هذا موقف شيعة الكويت كلهم، وحتى لو كان هذا موقف قطاع واسع منهم، فإنه يجب ان لا يلغي تاريخ الشيعة في الكويت، الذي هو جزء من تاريخ الكويت نفسه، ولهم مواقف متنوعة في الدفاع عن الكويت، ليس آخرها الاشتراك جنبا الى جنب مع اخوانهم السنة في مقاومة جيش صدام حسين المحتل 1990، الأمر الذي جعل المشاعر الطائفية بعد التحرير تخمد ويعود الوئام، كما لاحظ صديقي الكويتي السني، ولكن هذه المشاعر بدأت بالتنامي والصعود عقب غزو الأمريكان لنظام صدام وإسقاطه 2003، وتسلم القوى الشيعية لحصة الاسد من الحكم في العراق، الأمر الذي جعل بعض القوى الشيعية في الكويت تعيد التذكير بمطالبها لجهة تخصيص يوم عاشوراء يومَ إجازة رسمياً. وفتح المزيد من الحسينيات، وهذا اعتبره بعض الأصوليين السنة خطيرا، فقام شبان بالهجوم على مسجد يرتاده الشيعة في منطقة الجهراء 7/10/2005.

باستمرار، كان وضع الشيعة في الكويت يتأثر بالمحيط الايراني والعراقي والأحداث الكبرى التي تعصف بالخليج، وجوهرته: الكويت. وتاريخ العلاقات بين القوى الشيعية والحياة السياسية في الكويت قديم. وابرز محطاته كانت ايام أزمة المجلس التشريعي سنة 1938، وذلك حينما اصطدم بعض تجار ومسيِّسي الكويت السنة بحكومة الكويت في عهد الشيخ احمد الجابر. وأثناء هذا الصراع بين السلطة وأعضاء المجلس التشريعي، اصطف اغلب شيعة الكويت الى جانب السلطة، بل ان البعض يشير الى محطة أقدم في العلاقة، فحينما وقعت معركة الجهراء بين الإخوان والكويت 1920، قدم الشيخ القزويني احد مراجع الشيعة استعداده ومن معه للاشتراك في المعركة، حسبما يرصد احمد الدعيج («الوطن« الكويتية 20/2/2008) نقلا عن حسين الشيخ خلف خزعل. ونقل ايضا عن مؤرخ آخر هو سيف مرزوق الشملان، أن قسماً من الشيعة، وهم الإيرانيون تحديداً، طلبوا من المعتمد البريطاني عدم الاشتراك في المعركة فردهم.

لكن هناك صوراً أخرى عن شيعة الكويت؛ فمنهم من سجل اسمه في سجل المال والاعمال في عز ازدهار الكويت. ومنهم من تولى المناصب الوزارية المهمة، وخدم الكويت خير خدمة، ومنهم الليبراليون والأصوليون العاديون غير المهتمين بالحركية (جماعة الميرزا الاحقاقي او الشيعة «الحساوية» الذين رفضوا تأييد ثورة الخميني في ايران، بحجة انهم كويتيون فقط، كما يذكر الباحث د. فلاح المديرس في دراسته عن الحركات الشيعية في الكويت)، ومنهم الأصوليون الثوريون والعاديون. باختصار هم مثل الناس الآخرين، فيهم اليمين والوسط واليسار. وفي النهاية هم جزء أساسي من الكويت، ولكن البعض يصرّ على المقاربة الطائفية الجماعية للأحداث والمواقف، وهذا ظلم كبير، وخطر داهم، فالأحكام بالجملة تجعل المحايد من ذات الطائفة يشعر بأن هناك من يعاديه فقط لأن الصدفة القدرية جعلته شيعيا او سنيا، وهذه درجة من درجات التفكير البدائي التي تهيمن على التفكير الجماعي في وطننا العربي.

من هنا، كان مهما التفاتة الكاتب الكويتي المثير عبد اللطيف الدعيج، الذي كتب في «القبس» مقالا بعنوان «أسرار حملة التأبين»، مذكراً بمواقف نواب سلفيين وإخوان وتكتل شعبي وغيرهم، مشيدين بحسن نصر الله وبطولة الحزب في حرب 2006 مع اسرائيل، في التجمع الشعبي المناصر للحزب في ساحة الإرادة 21/7/2006. خطباء دبجوا المديح لحزب الله وسيده، من امثال النائب السلفي وليد الطبطبائي وغيره.

الدعيج لاحظ أن من ينادون اليوم بالوطنية وخيانة النواب الشيعة المؤبنين لمغنية، بعضهم قوى اصولية سنية كانت تؤيد او نصف تؤيد اسامة بن لادن وطالبان والزرقاوي في العراق، رغم ان تنظيم «اسود الجزيرة» في الكويت ليس إلا ثمرة من ثمار شجرة بن لادن القاعدية، فعن أي وطنية يتحدثون؟ المسألة ليست إلا استخداما عابرا وكيديا لهذا المفهوم.

المحزن في هذا الضجيج كله هو: كيف نستبدل الذي هو ادنى بالذي هو خير، كيف تهمين هذه الدوافع والغرائز السياسية والطائفية البدائية على المشهد الكويتي؟ هذا المشهد الذي كان مثالا وسقفا جميلا يتطلع اليه الخليجون كلهم بحفاوة وتقدير بسبب ما ميز التجربة الكويتية من تسامح ورقيٍّ؟

لولا عاصفة عبد الصمد ولاري في تأبين مغنية والهجاء الطائفي لهما، لكان الحديث عن بيان جمعية الإصلاح الاخوانية حول مضار الاختلاط العجيبة، ذلك البيان، مع التعصب الطائفي الثائر الآن، يجعلنا نردد مع الظريف الأول: «وش خانة الكويت؟».

[email protected]