رجل يقرأ وداعه

TT

عام 1954 سقطت في أوغندا طائرة كان على متنها ارنست همنغواي. وقبل أن يعرف الناس أن الكاتب قد نجا، كانت مقالات الرثاء والوداع قد ملأت صحف العالم، وهكذا تسنى للرجل أن يقرأ تأبينه حياً، وهي فرصة نادرة، والآن يقرأ فيدل كاسترو، من مستشفاه باللباس الرياضي الذي لم يظهر في سواه منذ مرضه، يقرأ، إذا شاء، آلاف المقالات التي لا تزال تكتب عن قراره بالتقاعد.

هذه فرصة مثيرة للقراء العرب الذين يريدون أن يعرفوا كيف قلد بعض الزعماء الرئيس الكوبي: من الإقامة في ثكنة الى الخطب المطولة التي لا تقول شيئا الى «إبقاء الثورة حية». تبدو المقارنة مذهلة أحيانا ومملة أحيانا أخرى، بسبب التقليد من دون أي محاولة إبداعية من جانبنا. فبعد نصف قرن تبدو الاشتراكية الكوبية نسخة طباقية عن الاشتراكية العربية: يوزع الفقر والبطالة بالتساوي على الناس وتوزع الثروة بالأفضلية على الحكم. وتأكيدا لمبدأ الحرية التي قامت الثورة من اجلها، تكون هناك صحيفة واحدة تعكس أفكار القائد الوحيد. ما عدا ذلك إرهاصات ذيلية.

قال الأستاذ في هارفارد، خورخي دومينغيز، إن كاسترو استخلص من سقوط الأنظمة الشيوعية عام 1993 أمثولة واحدة: إياك والإصلاحات. فبعد مرحلة عابرة من الحريات العابرة عاد كل شيء الى ما كان: يحكم بالسجن، مثلا، من يشاهد قناة تلفزيونية أميركية أو يستخدم «الإنترنت» من دون إذن. كذلك يحق «للجيران» أن يضربوا أي معتد على الثورة. النقد الوحيد المسموح هو لوزارة الأشغال أو وزارة الصحة. أحيانا. الطب كان النجاح الأكبر الذي حققته «الثورة». لذلك يمنح هوغو شافيز كوبا ما يساوي 6 مليارات دولار من النفط لقاء خدمات الأطباء الكوبيين. هناك 65 ألف طبيب في الجزيرة والجميع يخشى أن يهاجروا دفعة واحدة عندما تخف القيود. راتب الواحد لا يزيد على 20 دولارا. لكن أيضا ما هذه الصورة التي تتكرر أمامنا في المستشفى الذي يعالج فيه «القائد»: ألا يبدو محزنا أن يكون فيدل هو الشريك الضعيف في هذه العلاقة مع وريثه شافيز بعد نصف قرن من «التجربة»؟ نصف قرن من «الاشتراكية» التي تخشى برنامج تلفزيون أميركي، سخيفا في أفضل الحالات؟

«التقاعد» بعد نصف قرن من المستشفى، حيث الطب الكوبي نفسه لم يعد قادرا على إبقاء القائد في ثكنة موكاندا؟ ماذا سيكون حال «الثورة» الآن؟ في أي اتجاه سوف تذهب؟ هل تذكرون ماذا حدث في ألبانيا بعد سقوط نظام وريث أنور خوجا؟ ذلك المشهد السوريالي الذي لا يصدق: جميع ألبانيا تحمل حقيبتها وتعبر الحدود الى ايطاليا. جميع ألبانيا دفعة واحدة؟ وهل تذكرون آلاف القوارب التي حملت الناس بعيدا عن فيتنام ومئات القوارب التي حملت الكوبيين أنفسهم الى فلوريدا التي أصبحت شبه ملحق كوبي؟ لا شك أن فيدل كان ساحرا جماهيريا: وسامة وخطابة وبذلة خضراء. ولكن 11 مليون كوبي يعيشون على حافة العوز.