أيام فاتت

TT

اعتاد سكان بغداد على الخروج لصيد طيور الدراج في المنطقة المحيطة بناحية العطيفية. كان مشكور ابو طبيخ مديرا لهذه الناحية سنة 1934. في موسم الدراج، كان جالسا في بيته في يوم كثير المطر عندما دخل عليه الخادم وقال: «استاذ اكو واحد عصمانلي يريد يشوفك». كان الريفيون يقصدون بكلمة عصمانلي أنه عثماني. ويعنون بها بالضبط أفندي. قال له مدير الناحية: «اسأله ماذا يريد». خرج الخادم ليسأل ذلك الطارق عن حاجته. ثم عاد ليخبر سيده بأنه يريد مساعدته، سيارته غاطسة بالطين. «كل هدومه وقندرته مطينة. شلون أجيبه؟ راح اروح اصرفه». فقال له: «لا ابني لا. يمكن هذا بعدين يرجع لبغداد يحكي علينا ويسوي لنا قيل وقال. يقول اهل العطيفية ما عندهم مروة ولا شهامة. روح جيبه».

خرج الخادم وجاء بذلك الرجل غارقا بالطين. ما ان رآه المدير حتى اسرع اليه ليرحب به و يعتذر. «سيدي ما كنا نعرف. ما ندري انت هنا حتى نقوم بالواجب. قوم ابو حسين. قوم روح جيب ماي واغسل قندرة صاحب الجلالة».

لم يكن الطارق غير الملك غازي. كان قد خرج للصيد. ركب سيارته وحمل بندقيته وخرج من دون ان يكون احد معه. كان اليوم ممطرا حوّل الارض الى بوتقة من الوحل. ما ان توغل بسيارته في الارض المبتلة وقبل ان يصادف طيرا واحدا غاصت سيارته بالطين. وكما يقولون، كان الله رحيما بالطيور في ذلك اليوم. حاول الملك غازي اخراج سيارته بقوة الماكنة، ولكنها ازدادت غرقا حتى يئس من اخراجها ولم يبق له غير ان يقصد بيت مدير الناحية ليلتمس مساعدته.

«يا اولاد، جيبوا ماي وفرشة نظفوا قندرة الملك». انطلق الخدم والحرس فنزعوا قندرة الملك غازي، ينظفونها من الطين ويغسلونها في حين انهمك آخرون بتنظيف بنطلونه وجواربه بقدر ما يتسع الحال. اسرعت زوجة المدير لاعداد الشاي والكعك وما تيسر من الزاد. سمع اثناء ذلك عمال كراج اللطيفية بما حصل للسيارة الملكية فخف الرجال لرفعها واعادتها للطريق العام. «خلي بالك يا ولد! هذي سيارة الملك غازي، لا توسخها!». جاؤوا بالماء، سطلا بعد سطل، والكل يعتزون ويبتهجون في أن أعطاهم الله هذه الفرصة ليتباركوا بغسل سيارة الملك الشاب.

شكر الملك ضيافة المدير مشكور أبو طبيخ، واهل الناحية في إخراج سيارته. وانطلق عائدا الى بيته في الحارثية، خائبا في صيده، ولكن عامرا بحب شعبه. التفت مدير الناحية الى الفراش، «ولك يا ابو حسين، شلون تقول واحد رجال عصمانلي؟ ما تعرف الملك؟».

« استاذ والله ما عرفته. ما يفرق بشي عن بقية الناس. جاي بالثوب والبنطلون. لو ما انت تقول جيبه خليه يخش، كان طردته».

ايام الملك غازي، ايام ما زال يذكرها ابناء العراق. كانت ايام خير وفاتت.