ماذا نفعل مع كوسوفو ؟!

TT

ربما لا توجد في العلاقات الدولية حالة محيرة للعرب قدر حالة كوسوفو التي أعلنت عن استقلالها مؤخرا وسط مباركة من الولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية. ولعل ذلك كان واحدا من أسباب الحيرة، فالاعتقاد العام الذي يرقى إلى مرتبة الحكمة الذائعة أن العالم الغربي متخصص في تفكيك الدول الإسلامية ودعم الحركات الانفصالية فيها، بينما هو متردد للغاية عندما يخص الأمر أقليات إسلامية أو حقوقا إسلامية. وفي العادة فإن الموقف الغربي من فلسطين والفلسطينيين كثيرا ما يتم تعميمه لكي يخص كافة القضايا «الإسلامية»؛ وعندما تم انفصال تيمور الشرقية ذاع الاعتقاد أن ذلك جزء من مؤامرة غربية لتفكيك دولة إسلامية كبيرة هي اندونيسيا. وفي أحيان كثيرة فإن كل ما يخص موضوع التفكيك ومنح الاستقلال أو معارضته تم تفسيره على ضوء صراع تاريخي بين الغرب والعرب، وبين المسيحية والإسلام، وظلت الحروب الصليبية معنا حتى بعد مرور قرون كثيرة.

ولكن كوسوفو تظل حالة واضحة تضاف إلى حالات واضحة أخرى مثل البوسنة والهرسك ومن قبلهما الكويت عندما تحركت جيوش غربية ومسيحية من أجل تحقيق الاستقلال أو الحفاظ عليه لشعوب مسلمة. ولم تكن المسألة سهلة أبدا لأنه كان هناك انقسام غربي بشأنها، كما كان هناك من نعى الرابطة المسيحية الحضارية في مواجهة ما جرى نشره على أنه نوع من «البربرية الإسلامية»، وكان ذلك حتى قبل أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وأثناء إدارة بيل كلينتون التي لم يسيطر عليها، ولا كان فيها، محافظون جدد.

الحالة هنا معقدة ولا يوجد فيها قانون عام، والأصل فيها أنه لا علاقة لها بدين أو ملة من الأصل، وإنما توجد فيها مجموعة من المصالح القومية التي تهددها ما آلت إليه أوضاع جماعة عرقية تمثل أقلية مسحوقة بالتمييز والتعصب. فقد كان مستحيلا بناء أوروبا الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة بينما لا تزال فيها عمليات لإبادة الأجناس والمذابح الجماعية وحرمان أقليات من حقوقها التي منحت لها من قبل في شكل الحكم الذاتي أو أشكال أخرى لاتخاذ قرارات مستقلة أو معبرة عن هويات ثقافية متميزة. تماما كما كان مستحيلا التسليم لصدام حسين بالاستيلاء على كم من النفط يكفي للتحكم في الأسواق العالمية حتى ولو أقسم بغليظ الأيمان أنه سوف يوصل النفط رخيصا لكل مواطن أمريكي أو أوروبي في منزله. هنا فإن المصلحة مضمونة فقط بتوازن القوى، والواقع في حاضر الأيام ومستقبل الأفعال، فمن يستولي على الكويت اليوم سوف يصل إلى السعودية غدا ومن بعدها العالم كله. المصلحة هي الحاكمة إذن وليس غيرها، وهناك دائما ثمن للأخطاء والخطايا التي تقوم بها الدول والأمم والشعوب، ولم يكن بمقدور يوغوسلافيا وصربيا من بعدها ألا تدفع ثمن السير في طريق الحماقة والعنف لفترة طويلة إزاء مواطنيها اعتمادا على وجود روابط لم يؤكد وجودها إلا جماعة الأغلبية الصربية؛ تماما مثل استحالة ألا يدفع العراق، كما يدفع الآن، ثمن حربه مع إيران وغزوه للكويت، واستعداده لحرق نصف إسرائيل، حتى ولو كان «النظام العراقي» البعثي هو المسؤول. ففي العلاقات الدولية لا تقتصر المسؤولية على «النظام» وإنما على الدولة أيضا؛ وعندما غزت ألمانيا العالم تم تدميرها وتقسيمها بعد التدمير وكان عليها بعد ذلك أن تقيم البناء الأوروبي كله فوق أكتافها، وتدفع تكاليف وتعويضات هائلة لليهود مرة وللمزارعين الفرنسيين مرات، حتى عفا عنها الجمع الغربي فسمح بوحدتها مرة ثانية. أما اليابان فقد ضربت بالقنابل الذرية، وفقدت بعضا من جزرها لروسيا؛ وعلى أي الأحوال فقد بقيت في الطوع الأمريكي منذ الهزيمة ولم تخرج عليه قط على مدى أكثر من ستة عقود بل أنها تبعت أمريكا بالمال من دون تذمر في كوريا وفيتنام وحتى وصلت إلى العراق وبالأموال والجنود هذه المرة. كوسوفو لم تكن أبدا استثناء من هذه القواعد العامة للمصالح القومية للأمم والتحالفات الدولية، ومع الدولة الجديدة كانت هناك خيارات أخرى للاتحاد مرة أخرى ليس من خلال القسر وإنما من خلال الإرادة الطوعية. وقد اتحدت جمهورية التشيك مع سلوفاكيا التي انفصلت عنها من قبل دون طلقة أو قطرة دم واحدة عندما دخل كلاهما الاتحاد الأوروبي وطبق قاعدة اليورو وقواعد حركة العمل ورأس المال. ومن الممكن لصربيا أن تستعيد كل جماعتها السابقة من دون هيمنة قومية أو عرقية أو مشاعر بدائية تنتمي إلى تقاليد البداوة وما قبل المجتمع الصناعي. والدرس بعد ذلك مفتوح لمن يعتبر أن بناء الوحدة والتكامل ممكن داخل الدول أو بينها طالما كانت هناك قواعد ومؤسسات ومواطنة.

مثل ذلك لم يصل بعد إلى العالم العربي لأنه محتار بين غرائز بدائية متباينة. فهو قد يؤيد استقلال كوسوفو لأن غالبيتها من المسلمين، وهو لم يفهم الاضطهاد الصربي لأهل كوسوفو إلا ضمن هذا الإطار من العلاقات المسيحية الإسلامية حتى ولو كانت عملية الاضطهاد في العالم العربي والإسلامي تجري طوال الوقت بين مسلمين ومسلمين آخرين. وربما كان مفهوما لأسباب عقائدية جرى التعصب فيها أن يضطهد المسلمون السنة أشقاءهم من المسلمين الشيعة في أفغانستان، ولكن ليس مفهوما أن يضطهد السنة جماعة السنة الآخرين في دارفور الآن أو في كردستان من قبل. فمثل هذه العالمية للصراعات العرقية لا تميز بين أديان ومذاهب وأعراق وإنما هي تعبير عن تمايزات قومية لا تفهم في العالم العربي إلا ضمن إطار الأديان وفي حدود الحروب الصليبية. الخوف العربي الأكبر يكون من النفس، فلا يوجد ما أزعج العربي قدر اتفاقية سايكس بيكو وما جرى من تجزئة في المشرق العربي. ولم يحدث أن اهتم عرب بما جرى من توحيد كما جرى في العراق، أو في السودان، أو في اليمن، أو في دولة الإمارات، أو حتى في السعودية التي وحدت أقاليم وقبائل. فما يشغل البال هو دائما التقسيم والتفكيك حتى كان هذا الانشغال سببا في دول مركزية قسرية تقسم الناس حسب أعراقهم فتنتفي قاعدة المواطنة التي هى أولى قواعد الاتحاد الطوعي. كوسوفو هنا كارثة، فلو كان هناك حق لمليونين من البشر في الاستقلال، والاستمرار في الاستقلال حتى ولو كانت الدولة صغيرة وبلا منافذ على البحر، فكيف يمكن تجاهل مطالب أعداد أكبر ولها نوافذ على البر والبحر وأساطيل الدول العظمى.

القضية شائكة بلا شك، وكوسوفو أصبحت حقيقة قائمة لأنها مؤيدة من قبل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول أخرى كثيرة حتى ولو عارضتها روسيا وإسبانيا وكل الدول التي تخشى التقسيم أو لديها مشكلات عرقية. والاختيار بين المعسكرين تحكمه قضايا أخرى، فلا توجد قضية واحدة معلقة بذاتها مثل كوسوفو، فما عليها إلا التنافس مع قضايا عربية أخرى في العراق ولبنان وبالطبع فلسطين المزمنة. وفي هذه الأخيرة كان هناك ـ ياسر عبد ربه ـ من اقترح إعلان الدولة على الطريقة الكوسوفية ناسيا أن الدولة تم الإعلان عنها من قبل عام 1988 ومن قبل ياسر عرفات نفسه. فالقضية ليست الإعلان وإنما أن يكون الإعلان محميا بقوة ذاتية أو محميا من قوى عظمى ترى في ذلك مصلحة عليا.

وهكذا تكتمل الدائرة ونصل إلى المصالح مرة أخرى، ولو حكمت المصالح المباشرة كل الدول العربية لما كانت هناك حيرة فيما نفعله ليس فقط مع كوسوفو ولكن أيضا مع أنفسنا !!