رجال ريجيس دوبريه

TT

وصف ريجيس دوبريه بـ «المفكر» وبـ «الفيلسوف» وبـ «الثوري». ربما كان، على نحو ما، الثلاثة معاً. لكن الصفة الأشمل قد تكون «شاهد على القرن العشرين»، أو أحد أبرز الشهود. لم يرَ القرن عن بُعد، بل من الداخل. شاهده وهو يتحول، ويتغير، وينقلب، ثم ينقلب من جديد. بدأ العمل الثوري وهو طالب جامعي في باريس عندما حمل حقيبة خالية من الثياب، مليئة بالكتب، وسافر لكي ينضم إلى أشهر اسمين في عالم الثورة في الستينات، فيدل كاسترو وتشي غيفارا. وقاتل في جبال كوبا وأدغال بوليفيا، ثم جاء إلى الشيلي ليدعم حكم سلفادور اليندي اليساري. وعلى مكتبه شاهد صورة غيفارا وقد كتب عليها «إلى سلفادور اليندي الذاهب إلى المكان نفسه ولكن بطريق آخر». ويقصد أنه ذاهب إلى الثورة عن طريق الحكم لا عن طريق الأدغال. لكن غيفارا واليندي التقيا في الطريق نفسه بالاغتيال، عن طريق السي. آي. إيه: واحد في الغابة وواحد في القصر الجمهوري. «شاهد» دوبريه القرن فيما كانت الثورات تتفجر في أميركا اللاتينية ثم فيما راحت تخبو. وكان إلى جانب رجال مثل فرنسوا ميتيران، إضافة إلى ثوار كوبا. وفي مراحل أخرى اتهمه رئيس هايتي، اريستيد، أنه هو الذي دفعه إلى الاستقالة. لقد كان، على مدى ثلاثة عقود تقريباً، في جميع أمكنة اليسار. على أن أبرز المناصب التي احتلها كان منصب المستشار للرئيس الفرنسي ميتيران حول الشؤون الخارجية، وذلك قبل أن يبلغ الأربعين من العمر. وفي عام 1985، أصبح عضوا في مجلس الدولة. كان ميتيران يأخذ أحياناً برأي دوبريه، وأحياناً «يتجاهله بمودة». نحن أمام مذكرات مبكر جدا: العام 1963 رحلة إلى الولايات المتحدة ومن هناك إلى كوبا بطريق فنزويلا، حيث تعرف على اليزابيث بورغوس، التي ستصبح زوجته. ومن هناك ذهبا معاً إلى كولومبيا والإكوادور واعتقلا في البيرو ثم ذهبا إلى الشيلي. وبعدها انضم إلى عمال المناجم في بوليفيا. عام 1965 نشر في مجلة «الأزمنة الحديثة» التي كان يرأس تحريرها جان بول سارتر، مقالا بعنوان «الكاستروية، أو المسيرة الطويلة في أميركا اللاتينية». وعلى اثرها دعاه كاسترو إلى هافانا لحضور المؤتمر الآسيوي الأفريقي اللاتيني، الذي يستمر ستة أيام، لكنه بقي في القارة ست سنوات إلى أن اعتقل في أدغال بوليفيا عام 1967 بعد الانفصال عن فرقة تشي غيفارا. وادّعى يومها أنه صحافي جاء يجري مقابلة مع غيفارا، لكن ذريعته لم تصدق. وعندما اغتيل غيفارا بعد خمسة أشهر سرت إشاعات تقول إن دوبريه أعطى تحت التحقيق معلومات ساهمت في ذلك. ووصفته «التايم» بأنه ثوري طبقي مزيف. وسخرت من سفر والده وأمه الثريين إلى بوليفيا لإنقاذه «من السجن هو ومربيته». وصدر عليه حكم بالسجن 30 عاما. لكن تدخل الحكومة الفرنسية أدى إلى إطلاقه بعد 3 سنوات. وساعد في ذلك اتحاد عمال المناجم في بوليفيا واتحاد المرأة والجمعيات الطلابية.

هذه المرحلة الغائرة من حياة دوبريه، دوّنها في مذكراته التي صدرت الآن (دار فيرسو) بالإنجليزية، تحت عنوان «المجد لأسيادي: السيرة الذاتية». وسوف نقرأها معاً لكي نرى كيف ينظر دوبريه إلى أسياده أو معلميه السابقين: كاسترو وغيفارا وميتيران؟. وماذا يرى وهو يعود أربعين عاماً إلى الوراء، عندما رفض وطنه وعائلته من أجل الثورة؟. إنها مذكرات مثيرة حقاً.

إلى اللقاء.