مهرجان تأبين مغنية عودة لمرحلة الخيبة والهزائم!

TT

ليس العالم الاسلامي بقدراته وامكاناته الكبيرة، فعلا، وليس العالم العربي من المحيط الى الخليج وليس سوريا وإيران معاً، بل ان حزب الله وحده بصواريخه العشرين ألفا وبرقعة عملياته المحصورة في ضاحية بيروت الجنوبية مع شريط غير سالك ولا آمن يمتد الى منطقة بعلبك وآخر بالمواصفات نفسها تقريبا يمتد الى الجنوب الذي ترابط فيه ببركات الانتصار الإلهي قوات دولية تشكل شريطا عازلا بقيت اسرائيل تعتبره احدى أهم نظرياتها الأمنية سيدمر دولة الكيان الصهيوني ويلغيها من الوجود.. «وتجوع يا سمك»!!

أعرب قائد الحرس الثوري الايراني الجنرال محمد علي علايلا جعفري قبل أيام عن قناعته بأن زوال اسرائيل بات قريبا، وقال في رسالة «تعزية وتبريك»!! وجهها الى الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله باستشهاد عماد مغنية: «بلا شك ان شهادة هذا المجاهد المخلص والفدائي ستشحذ كثيرا عزم كل المسلمين الثوريين والمناضلين، خصوصاً المجاهدين ورفاق السلاح لهذا الشهيد العزيز على مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب.. انني على يقين بأن أرض أبي ذر الغفاري والتراب المقدس لجبل عامل سيربي كما في السابق بين أحضانه مئات وألوفا أمثال عماد وسترفع الارادة الالهية المتعالية قدرة حزب الله يوما بعد يوم وأكثر من السابق وسنشهد في المستقبل القريب ازالة هذه الجرثومة السرطانية على أيدي مجاهدي أمة حزب الله.. القادرة والطائلة». إن هذا ما قاله قائد الحرس الثوري الايراني وهو كلام بالامكان التعامل معه على أنه مجرد مبالغات عاطفية جياشة في مناسبة اغتيال مغنية في قلب العروبة النابض، دمشق، لو أن حسن نصر الله نفسه لم يردد مثل هذا الكلام أكثر من مرة ولم يشدد مرات متعددة على أن هدف حزبه هو تحرير فلسطين من البحر الى النهر.. إنها عودة لأفكار ومفاهيم وشعارات خمسينات وستينات القرن الماضي عندما كان تجار الكلام يملأون الإذاعات المضللة التي أنجبت فضائيات اكثر تضليلا منها صخبا ويطالبون أسماك البحر الأبيض المتوسط بأن تتجوع انتظارا لوجبة دسمة هي اليهود الذين لن يكون مصيرهم إلا هذا المصير.

وللأسف، فإن هزيمة يونيو (حزيران) 1967 كشفت عورات هذه الشعارات وعورات أصحابها وكانت أكبر صدمة لجيل كامل من الشباب العرب، ليس من بينهم بحكم عامل السن لا الجنرال محمد علي جعفري ولا حسن نصر الله، عندما جاء اليهود الى مشارف دمشق واحتلوا باقي ما تبقى من فلسطين ووصلوا الى قناة السويس بدل ان يلقي بهم أصحاب الأصوات المرتفعة والأفعال القليلة في البحر الأبيض المتوسط لتأكلهم أسماكه التي لو أنها صدّقت صخب الاذاعات ومبالغات تجار الكلام لبقيت جائعة ومتجوعة تنتظر ما وُعدت به حتى هذا اليوم. عشية حرب يونيو ذهبت نشوة الكلام بشاعر فلسطيني يقيم في دمشق، التي انتهك «الموساد الاسرائيلي» وشركاؤه كرامتها وأمنها وقتلوا في أحد شوارعها المحروسة قبل أيام مغنية الذي كان ارهابيا استهدف اهدافا عربية أكثر مما كان مجاهدا يستحق كل هذا التحسر والنواح، الى حد دعوة العرب لقضاء عطلة الصيف على شواطئ نهاريا.. فالجيوش الثورية في زحفها اللجب قادمة، لكنه انتهى الى ما كان قاله في بدايات عقد الستينات معاتبا بغداد بعد سقوط نظام حزب البعث على يد عبد السلام عارف:

أكاد أومِنُ من شك ومن عجب

هذي الملايين ليست أمة العرب

عندما انطلقت الثورة الفلسطينية التي اطلقت رصاصتها الأولى حركة «فتح»، التي تتهم الآن بالخيانة والعمالة، في الفاتح من عام 1965 كانت تريد تحرير ذلك الجزء من فلسطين الذي أقيمت فوقه اسرائيل عام النكبة، عام 1948 وهي كانت صادقة في منطلقاتها، لكنها ما لبثت ان اصطدم رأسها بجدار الواقع فأصبحت بعد تجارب مرة بالفعل أكثر تواضعاً، وأخذت تطالب بما تطالب به الآن، وهو دحر الاحتلال عما احتل من أرض في يونيو 1967 وإقامة دولة مستقلة، لا يزال أمام اقامتها جز الحلاقيم، في الضفة الغربية وأيضا في قطاع غزة الذي انفصلت به حليفة حزب الله حركة «حماس» وحولته الى «دوقية» لها هي دويلة من أسوأ الدويلات المشوهة التي عرفها التاريخ.

هناك هدف معلن أجمع عليه العرب بما في ذلك سوريا، التي قالت قبل أيام في اعلان على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم لا يزال طريا هو ان خيار الحرب لاستعادة الجولان غير وارد، وهو هدف ينص على استعادة الأراضي التي احتلت عام 1967 ولذلك جاءت مبادرة السلام العربية ولذلك فإنه يجري كل هذا الذي يجري وتبذل كل هذه الجهود التي تبذل، من قبل المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودول عربية أخرى، لإلزام الرئيس الأميركي جورج بوش بما وعد به بأن تقوم دولة فلسطينية مستقلة الى جانب دولة اسرائيل قبل نهاية هذا العام.

والمشكلة التي ربما لا يدركها الذين يتبرعون للنطق بلسان حزب الله والتحدث باسمه فيطلقون هذه التصريحات «البلهاء»، هي ان قضية الشرق الأوسط أكثر تعقيدا مما يعتقدون، ولذلك فإنه وحتى وإن كانت هناك قناعة بالتحرير الكامل، فإن هذه القناعة لا يمكن ترجمتها الى واقع ملموس إلا بعد تغييرات جذرية في المنطقة، وهذا يحتاج الى سنوات طويلة، وبخاصة أن التغييرات المقصودة هي تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية هائلة وليست مجرد انقلابات عسكرية كتلك التي ابتليت بها هذه الأمة في أخطر عقود الصراع مع اسرائيل، والتي اطلق عليها أصحابها زوراً وبهتاناً اسماء «الثورات»!! ثم، وهذا السؤال يجب ان يوجهه هذا الحزب لنفسه قبل ان يوجهه اليه الآخرون، وإذا كان عبد الناصر قد أخفق في تحرير ولو شبر واحد ليس من فلسطين فقط وإنما مما احتل من ارض مصر وإذا كانت الثورة الايرانية قد انتهت الى هذه النهاية وأصبحت مصدر أحلام مرعبة للمنطقة كلها، أنظمة وشعوبا، وأيضا اذا كان حزب البعث صاحب الرسالة الخالدة قد أعلن على لسان وزير خارجية نظامه ان خيار الحرب لاستعادة الجولان لم يعد واردا اطلاقا.. فهل ان حزب الله يا ترى قادر على حمل هذا العبء وتحمل مسؤولية ازالة اسرائيل وحده...؟!

«رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فأوقفها عند حدها» فالبطل العظيم صلاح الدين الأيوبي قبل أن يهزم الصليبيين هيأ عوامل الانتصار بجمع كلمة الأمة وتوحيد شملها وجعلها على قلب رجل واحد.. فهل ان حزب الله يفعل الآن هذا...؟!

لا أبداً فهذا الحزب أدخل نفسه في تمحورات المنطقة واستقطاباتها وهو بتصرفاته ومذهبيته الزائدة أقحم لبنان في صراعات جانبية على حساب الهدف الرئيسي. وهكذا، فإن حسن نصر الله، وهو يتحدث عن تحرير القدس وفلسطين، فإن عينه على التركيبة اللبنانية الداخلية، وهذا معناه ان كل هذه الشعارات الجهادية التي تطلق لا هدف لها إلا خدمة المشروع الاقليمي الايراني الذي يريد الولي الفقيه من خلاله «فكفكة» هذه المنطقة وإعادة صياغتها، وفقا لما يتلاءم مع أحياء التطلعات الفارسية القديمة ولكن بعمامة سوداء مقدسة!!.

انه بالإمكان الحديث عن هزيمة اسرائيل على المدى التاريخي، بل ان هذا ضروري، والسبب ان هذه الدولة لا تريد السلامَ في حقيقة الأمر، أما ان يتحول مأتم عماد مغنية الى مهرجانات ضحك على الذقون وتسويق لسياسات اقليمية لا علاقة لها بفلسطين ولا بالقدس، فإن هذا لا يمكن قبوله ويعتبر عودة لشعارات مرحلة تغييب العقول، وهو تكرار لمرحلة لم تحصد منها هذه الأمة سوى الخيبات والهزائم.