فرنسا اللاعب الأهم في نزاع دارفور

TT

للمرة الثانية تستولي قوات تحالف المعارضة التشادية على تشاد بما في ذلك العاصمة انجمينا باستثناء القصر الرئاسي الذي لم يسلم من الحصار. ثم ترتد المعارضة مدحورة لأسباب غامضة، علما ان فرنسا قد أعلنت قبل وبعد الحصار الاخير انها على «الحياد» في القتال مع إبداء استعدادها لإجلاء الرئيس عن القصر ضامنة سلامته ونقله الى خارج البلاد. ولما رفض الرئيس ديبي العرض الفرنسي أثنى وزير دفاعها على شجاعة ديبي ومدح قدراته العسكرية وبعد ذلك بقليل اعلن عن هزيمة قوات المعارضة ومطاردة ما تبقى منها في العاصمة التشادية!

وبالرغم من ان فرنسا في المبتدأ اعلنت عن حيادها في القتال إلا انها بعد دحر المتمردين عادت فقالت على لسان اكثر من مسؤول: انها تدخلت وساعدت الرئيس الذي كان محاصرا وأنقذت حكمه من السقوط. وقال ناطق باسم وزارة الدفاع الفرنسية: ان القوات الفرنسية نقلت ذخائر من ليبيا ودول اخرى الى الجيش التشادي عندما وصل المتمردون الى العاصمة مطلع الشهر الحالي، مكتفيا بذكر ليبيا دون الدول الاخرى، وكرر ان القوات الفرنسية المنتشرة في تشاد لم تتدخل في القتال بين القوات الحكومية الموالية لديبي والمتمردين، لكن فرنسا زودت ديبي بدعم لوجستي واستخباراتي.

وتبقى على السطح اسئلة كثيرة بلا جواب ابرزها: كيف استعصى على المتمردين اقتحام القصر بينما تمكنوا من اجتياح البلاد بأسرها؟ لا شيء غير القوات الفرنسية التي كانت تحرس القصر وأنها افهمت المتمردين ان اقتحامه من الخطوط الحمر ما يعني ان حيادها مجرد خدعة وتغطية كي لا تبدو امام القاعدة الشعبية الرافضة لحكم ديبي وكأن فرنسا منحازة لحكم الرئيس. فضلا عما تردد عن مقاتلات قصفت قوات التمرد مستفيدة من المساعدات اللوجستية والاستخباراتية الفرنسية التي لم تخف فرنسا انها قدمتها لحكومة ديبي، وبالطبع من غير المستبعد ان تكون المقاتلات هي في الاصل فرنسية!

وحتى بالنسبة للامدادات العسكرية سارعت فرنسا للاعلان بأن دورها اقتصر على نقلها من بلدان مجاورة تحفظت على كشفها باستثناء ليبيا التي قيل ان بين ما قدمته قذائف دبابات روسية الصنع، ولا يبدو ان كشف اسم ليبيا وحدها دون سواها جاء سهوا وإنما كان مقصودا لإبراز ما يعتقد أنها تلعب دورا مزدوجا مع المتمردين من جهة ومع حكومة ديبي من جهة اخرى. علما أن لليبيا تاريخا طويلا من الحروب والصراعات مع تشاد. وحتى هذه اللحظة هناك من هم في الحكم التشادي يهاجمون الجماهيرية الليبية ويزعمون انها مع السودان وراء تسليح ودعم المعارضة التشادية وهجومها الاخير الذي تم دحره!!

لقد بالغت الحكومة التشادية في كيل التهم لحكومة البشير بحسبانها وراء اجتياح تشاد وقدمت صوراً لأطفال زعمت انهم الفيلق الاسلامي الذي دفع به السودان بالاشتراك مع «القاعدة».. لإسقاط النظام على حد تعبير وزير داخلية تشاد، كما اعلنت غير مرة انها ستحارب السودان وتتعقب المتمردين داخل أراضيه، وهي كلها اتهامات غير منطقية وغير مقبولة، فالسودان ليس بحاجة إلى تجنيد أطفال لمحاربة تشاد اذا كان جاداً في اسقاط نظامها وبنفس القدر فإنه ليس حليفاً لـ«القاعدة».. حتى يؤلف معها ما يسمى بالفيلق الاسلامي ويبعث به إلى تشاد، كما ان تشاد ليست لديها القدرة على غزو السودان وليس لها الحق في التهديد بتعقب ما تسميهم بالمتمردين داخل اراضيه. بل هي تستحق الادانة من المجتمع الدولي على مجرد هذه التخرصات المناقضة لميثاق الامم المتحدة.

ولكن بوسع تشاد ان تجعل سلام دارفور بعيد المنال بتغذية الفصائل المتمردة طالما الأوضاع بينها وبين السودان متوترة، ولا يمكن القضاء على هذا التوتر بعقد اتفاقات سلام بين النظامين، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية جملة من الاتفاقات ولكنها كلها تبخرت بعد زمن وجيز من عقدها لسبب جوهري هو ان النظام التشادي لا بد ان يتصالح مع شعبه. فالمعارضة التشادية لا تقاتله من أجل السودان، وإنما من اجل قسمة السلطة معه ومن اجل حريات وحقوق تحسبه قد حرمها منها، وما لم يعترف النظام التشادي بذلك ويتحقق التوافق المنشود فإن معارضته لن تتوقف وبسبب الحدود والتداخل القبلي فلا بد ان يكون السودان طرفاً فيها على نحو ما دون استئذان أو تدخل مباشر أو غير مباشر من الحكومة السودانية. لهذا السبب أصبح هناك ما يجعل سلام البلدين حالة مترابطة ولا يمكن تحقيقها بشكل كامل إلا بتحقيق الغايات المشتركة.

بالنسبة للسودان هناك اعتراف بمظالم ومطالب أهل دارفور وسعي جاد للوصول إلى اتفاقات نهائية وصولا إلى السلام والاستقرار، وتبقى المشكلة في النظام التشادي. وفي ظل الأوضاع الراهنة والمستجدات السياسية يكون أهم اللاعبين في ساحة ازمة دارفور وحروب تشاد على الصعيدين الدولي والإقليمي أيضاً هو فرنسا. معلوم ان فرنسا تستضيف بشكل دائم عبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان الرافضة للتفاوض، وهي فوق ذلك الدولة الأولى ذات التأثير الكبير والمباشر على نظام ادريس ديبي في تشاد، وبالتالي بوسعها ان تجعل نظام ديبي يتصالح مع القوى التشادية التي تعارضه وكذلك بإمكانها ان تلعب دوراً اساسياً في معالجة أزمة دارفور من خلال معالجة الأزمة التشادية.

وعلى كل الأطراف المعنية بقضية دارفور أخذ الدور الفرنسي الاساسي في الاعتبار، وقد اعترف الرئيس الأميركي جورج بوش بهذا الدور الفرنسي عشية زيارته لأفريقيا، حيث صرح في مقابلة بثتها إذاعة فرنسا الدولية بأنه يشكر فرنسا على عملها المسؤول في تشاد ودورها في تشكيل القوة الأوروبية لمساعدة ضحايا نزاع دارفور وقال: أعتقد فعلا بأن استقرار دارفور يؤثر على تشاد وعلى المصالح الفرنسية، وأضاف: «أشكر حكومة نيكولا ساركوزي على عملها المسؤول في جمع قوات من الاتحاد الاوروبي للمجيء والمساعدة في نزاع دارفور».

في ضوء ما تقدم، المطلوب من الحكومة السودانية النظر بعين الاعتبار لأهمية الدور الفرنسي والتعامل معه ليس بعيداً عن التوترات فحسب وإنما بما يحقق السلام المنشود وفي أقرب فرصة ممكنة.