روسيا: العودة الى المستقبل

TT

سيعود الروس الى الانتخابات نهاية الأسبوع الحالي ليختاروا رئيسا جديدا. قد تتساءلون: ما هي الصفقة الكبرى؟ بمعنى ما ليست هناك صفقة كبرى. فروسيا تبدو وقد اعتادت على قضايا الانتخابات مثل البطة على الماء.

ومع ذلك فان الحدث مهم لسببين على الأقل.

فأولا ستكون هذه هي المرة الأولى خلال عقود يحدث فيها انتقال للسلطة في الكرملين من دون اراقة دماء أو على الأقل اضطراب سياسي. ففي ظل النظام القديم ينهض القياصرة أو يسقطون عبر انقلابات القصر ومؤامرات النبلاء. وفي ظل الشيوعية كان صراع السلطة يجري داخل حدود حجرة القيصر المعروفة باسم المكتب السياسي. وفي أيام احتضار الاتحاد السوفييتي والمراحل الأولى من النظام الجديد فان الأوليغاركيين الجدد ومحركي الدمى من الأغنياء الجدد يتحكمون بالمشهد.

غير ان فلاديمير بوتين يتنحى الآن كرئيس بعد ثماني سنوات بدون أدنى تلميح لأزمة سياسية.

ومن المؤكد أن نقاد بوتين، داخل وخارج روسيا، كان لهم يوم ميداني مع مساعيه لفرض خليفة يختاره هو ليسهل عودته الى السلطة، وهذه المرة كرئيس وزراء.

ويجادل هؤلاء بأن الانتخابات الرئاسية الروسية تبدو أكثر شبها بالانتخابات التمهيدية التي تقوم بها الأحزاب السياسية الأميركية منها بممارسة ديمقراطية ناضجة. فالمرشح الرئيسي هو ديمتري ميدفيديف البالغ 42 عاما وهو خيار بوتين المفضل. وتحرك ماكينة بوتين السلطوية مصادر الدولة دعما لخليفته المختار. غير انه ليس من غير الطبيعي بالنسبة لرئيس متقاعد أن يحاول ضمان الخلافة لشخص يماثله في التفكير في أي نظام ديمقراطي.

ووفق كل الحسابات فان نمط السياسة الذي يمثله بوتين يستمر في التمتع بدعم شعبي واسع في مختلف أنحاء روسيا.

وحتى قبل ان يصادق بوتين على ميدفيديف أظهرت جميع استطلاعات الرأي أن مرشح بوتين المفضل سيفوز بالحصة الأكبر في الجولة الأولى من الانتخابات التي تجري الأحد المقبل (كانت استطلاعات الرأي قد منحته نسبة 34 في المائة). وما أن أعلنت مصادقة بوتين قفزت النسبة الى 79 في المائة، مما يضمن انتخابه في الجولة الأولى.

وفي هذه الانتخابات هناك مرشحان آخران فقط يمكن أن يحصلا على ما يزيد على 10 في المائة من الأصوات. أحدهما هو فلاديمير جيرينوفسكي الشوفيني الذي كان حزبه يمول من جانب صدام حسين لسنوات. وهو يؤيد احياء الامبراطورية الروسية، بالقوة اذا تطلب الأمر، ويحلم بتوسيع الهيمنة لتصل الى المياه الدافئة للمحيط الهندي. وتظهر معظم استطلاعات الرأي انه قد يحصل على نسبة 13 في المائة من الأصوات.

أما المرشح الثاني فهو زعيم الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف الذي يحتمل أن يحصل على 11 في المائة من الأصوات.

ولم يقدم جيرينوفسكي ولا زيوغانوف برنامجا رئيسيا يمكن أن يجتذب قطاعات واسعة من المجتمع الروسي في الوقت الحالي.

ويشكل جمهور الناخبين الذين يوصفون بالليبراليين حوالي 20 في المائة من الناخبين. غير أنه اخفق في اقامة اجماع حول مرشح واحد. وبدلا من ذلك فإنهم يخوضون معركة مع عدد من المرشحين الذين يقدمون نسخا مثيرة للجدل من الرسالة الليبرالية. هل من الغريب أن تفضل غالبية الروس الاستمرارية بدلا من الدخول في مخاطر لا لزوم لها مع قومي احمق وستاليني لم يمر بإصلاحات أم ليبرالي مرتبك؟

هذه الانتخابات تتعلق من ناحية بسجل بوتين أكثر منه بوعود رئيس مستقبلي. كثير من الروس يتوقعون ان يحل ميدفيديف محل بوتين مؤقتا الى حين عودته الى الرئاسة في وقت لاحق. إذ يتلخص واحد من السيناريوهات في ان ميدفيديف سيتقدم باستقالته بعد ستة أشهر فقط من انتخابه رئيسا، ويعني ذلك انه سيصبح بوسع بوتين السعي للعودة الى الرئاسة لفترة ثالثة ورابعة من دون ان يشكل ذلك خرقا للدستور، الذي ينص على شغل الرئيس فترتين رئاسيتين فقط.

الافتراض هنا هو ان الروس يريدون بوتين لفترة ثماني سنوات أخرى على الأقل. وهذا ليس أمرا مثيرا للدهشة. فبوتين صاحب سجل قوي في السياسات الخارجية والداخلية على حد سواء. إذ نجح في إعادة بناء جهاز الدولة الروسي المتفكك وأعاد للبلد الثقة المفقودة وأخرج الاقتصاد من حالة التردي التي كان يعاني منها. غالبية الروس اليوم تشعر بالتصالح مع النفس أكثر من أي وقت مضى منذ سقوط الامبراطورية السوفييتية. أنهى بوتين أيضا الحرب في الشيشان، وهذا يعتبر انجازا لأي زعيم روسي على الرغم من حقيقة ان الشخص الذي عين مسؤولا في غروزني هو رمضان قديروف، الذي يبغضه كثيرون.

عرض بوتين يوم الخميس الماضي تقييما مفصلا لسجله وذلك خلال مؤتمر صحافي استمر خمس ساعات وحضره حوالي 1400 صحافي. اذا صرفنا النظر عن لهجة الإشادة الذاتية ومحاولات التجميل لبعض الجوانب، فإن سجل بوتين كما ورد في مؤتمره الصحافي أفضل من سجل أي سلف له خلال فترة قرن تقريبا.

على أية حال، ربما يكون نهج بوتين قد وصل الى حدوده، شأن غيره في مجال السياسة. استخدام أسلوب حكم الفرد لبناء مجتمع حديث مركزه الدولة ليس بالأمر الجديد على بوتين. حاول هذا الاسلوب عدة حكام في مختلف السياقات مثل بطرس الأعظم وبسمارك والجيش الياباني وحتى موسوليني وستالين. وفي نهاية الأمر يقود حكم الفرد إما الى الضمور والتدهور او الثورة والحرب.

عانت روسيا قبل نحو عشر سنوات من انعدام الانضباط والانهيار العام للنظام والقانون. إلا ان غالبية الروس اليوم تعاني من انعدام الحرية، ويتركز السؤال على مدى السنوات الأربع المقبلة على كيفية توسيع قواعد صنع القرار دون إضعاف الدولة، وهذا يتطلب التخفيف التدريجي من القبضة التي تمسك بخناق جزء كبير من وسائل الإعلام، الأمر الذي يحول دون أداء المؤسسات الأخرى، خصوصا الأحزاب السياسية والبرلمان، عملها الصورة المطلوبة.

وصلت السياسة الاقتصادية لبوتين أعلى درجات فعاليتها. إذ ان استخدام عائدات صادرات النفط والغاز لتعزيز معدلات النمو الاقتصادي (7 ـ 8 في المائة سنويا) أدى الى طفرة اقتصادية يشعر بوتين بالفخر في تحقيقها. إلا ان روسيا، شأن أي دولة أخرى غنية بالنفط، ستدرك قريبا إن إيجاد ثروة مستمرة يتطلب ما هو أكثر من مجرد الكم الهائل من العملة الأجنبية. الاقتصاد الروسي تحت رحمة تقلبات اقتصادات الدول الصناعية التي ساعد طلبها على الطاقة على بروز نموذج بوتين.

الموضوع الرئيسي لحملة ميدفيديف تركز حول المستقبل، على الرغم من أنه يؤسس لشرعيته اعتمادا على إنجازات بوتين في الماضي. العودة الى المستقبل؟

ربما يكون هذا الأمر صالحا للسينما. فالسياسة لها قواعد مختلفة.