أحاديث مرسلة ذات شجون

TT

يموج العالم بتطورات تعكس وتنبئ بحالة من الاضطراب العام تثير القلق والتساؤلات حول المستقبل، الذي يواجه الإنسانية، فالأوضاع البيئية تثير أخطار كوارث طبيعية، نتيجة تغير المناخ والتلوث، مما يتسبب في فيضانات واحتمال إغراق أجزاء كثيرة من اليابسة، ومجاعات ترتبط أيضاً بارتفاع ليس له دائماً مبرر منطقي في أسعار البترول ـ التي تجاوزت المائة دولار ـ وأسعار الطاقة عموماً، مما يؤدي إلى الاستعانة ببعض المنتجات الزراعية كالذرة لتخليق مصادر للطاقة، وكذلك زيادة الطلب على تلك المنتجات، وبالتالي ارتفاع أسعارها الى ما يفوق قدرة الشعوب الفقيرة في الحصول عليها لغذائها، فتصاب بأمراض الهزال والضعف، مما يعوق قدرتها على الإنتاج فتزداد فقراً على فقر.

وقد شاهد الكثيرون مؤخراً في القاهرة، فيلماً أعده نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل غور يرسم صورة غير مشرقة لمستقبل الإنسانية، إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه. ويضيف الإنسان الى تلك المخاطر بانشغاله وانغماسه في نزاعات تتنكر لكل ما توصل اليه البشر عبر سنوات من النضال والكفاح من أجل مبادئ المفروض أن تحكم العلاقات بين الشعوب، لكي يسود وئام يسمح بتوحيد الجهود أو على الأقل تنسيقها. ويدخلنا هذا إلى باب السياسة،

فإسرائيل مثلاً ما زالت سادرة في غيها في تعاملها مع الفلسطينيين، تحاصرهم وتجتاح أراضيهم وتقتل أبناءهم ومحاصيلهم حتى لا تعطيهم حقوقهم، فإذا قاوموها اتهمتهم وشاركها في ذلك للأسف آخرون بالإرهاب، وإذا لم يقاوموها استدرجتهم إلى مفاوضات لا تعطيهم فيها شيئاً ولا تحقق إلا إضاعة الوقت والجهد، وتستهدف الوقيعة بين الأشقاء لكي تزداد الهوة بينهم فيتصارعون بدلاً من بناء جسور تواصل، وسقف واحد يحميهم مما يدبر لهم من عواصف تبرق وترعد وتنهمر سيولاً تودي بالآمال. ولست أفهم كيف أن الأشقاء الفلسطينيين يقعون في هذا الفخ ويتنابذون بالألقاب فهؤلاء انقلابيون وأولئك متهاونون وبائعون للقضية، وفي كل فريق انقسامات مثلما حدث مؤخراً من تصريحات صادرة عن بعض السلطة تؤكد إمكانية إعلان دولة فلسطينية من جانب واحد، تنفيها تصريحات من البعض الآخر الأعلى بالسلطة، ثم تنطلق أفكار بالعدول عن فكرة الدولة لإحراج اسرائيل بالعودة إلى فكرة دولة واحدة تضم العرب واليهود على أمل أن تنتهي بذلك الدولة العنصرية اليهودية في بحر تزايد السكان العرب، كأن إسرائيل إذا ضمت الأراضي كلها لن تحتاط لمثل هذا الاحتمال فتعرض العرب لمزيد من حرب الإبادة سواء بالقتل أو الطرد أو الإجبار على الهجرة. وكل ذلك إذا حدث لن يلقى مثل ما يحدث اليوم ـ إلا على تأييد من الولايات المتحدة التي مهما تغير حكامها، فهو لا يصل أبداً الى اتخاذ موقف من إسرائيل، إلا ما يتفاوت بين التهديد القوي غير الفعال، واللوم الخفيف غير المنتج، وإلا المشاركة في محاولة خديعة الدول العربية باختلاق عداوات بينها، والوقيعة بينها وبين جيران لها بشأن نزاعات حقيقية أو مختلقة، يمكن قطعاً تجاوزها أو تسويتها بحوار حقيقي وعميق يقوم على احترام المصالح المشتركة ومحاصرة المصالح المتباينة حتى لا تطغى التناقضات الفرعية على التناقضات الرئيسية. وإذا نظرنا إلى العراق فالدماء تسيل والعداوات التي كانت تحت السيطرة تصحو بالفتنة من نومها، بينما الاحتلال الجاثم على رقاب الجميع يمزق وطناً استطاع في عهود كثيرة متباينة أن يشكل وحدة قادرة على تجاوز الكثير من مغريات الانتحار أو التلاشي.

وعندما ينسحب الاحتلال، فإنه سوف يترك وراءه كثيراً من الركام والنفوس الممزقة والحرائق المشتعلة. ولبنان ما زال أهله يتصارعون بينما الوطن كله يحترق برغم كل الجهود المضنية التي يبذلها الأمين العام لجامعة الدول العربية. ولعلي أقول مرة أخرى أن مشكلة لبنان لن تحل إلا بالتعاون مع كل من سوريا وإيران، ومهما يكن الرأي بالنسبة للدولتين المشار اليهما والنظام الحاكم في كل منهما، فإنه لا يمكن التفكير في الحصول على تعاونهما مع جهود ناجحة لضمان سيادة لبنان واستقلاله وانفراد أهله بحرية قرارهم، إلا إذا شعر النظام السوري والإيراني بأن تهديد وجودهما بشكل أو بآخر ليس هو الهدف. وأنا أعرف أن هذا الرأي قد يزعج الكثيرين لأسباب أعرفها وأشارك في الكثير منها، ولكن السياسة لا تتطابق دائماً مع ما يجب أن يكون، بل هي تعني خلق أوضاع وتوازنات تحافظ على الأهم وتمنع استمرار شلالات الدماء والكوارث. ولعله من المهم أن يتركز جهد في العمل على تجنب عدم انعقاد القمة العربية القادمة عن طريق تفاهمات تتيح إمكانيات بدايات جديدة مبنية على أسس لا تنسى الماضي أو حتى تتسامح فيه، ولكنها تنظر إلى المستقبل الذي إذا سمحنا فيه للطوفان أن يحدث، فإنه لن يفرق بين الظالم والأكثر ظلماً والبريء والأنصع براءة. وقد رأينا كيف استطاعت أوروبا أن تمد الأيدي الى الأيدي فوق بحار من العداوات المتوطنة. ومع ذلك فهي تواجه الآن مشكلة استقلال كوسوفو وتنقسم حولها. والواقع أن هذه المشكلة في جوهرها هي صدام بين مبدأين قانونيين مهمين أولهما حق الشعوب في تقرير مصيرها، والثاني هو احترام الأوضاع القائمة تجنباً لإثارة الفوضى بتقسيم الدول. وهذا الصدام بين مبدأين جديرين بالاحترام يخلق جواً من الحيرة لا أعرف كيف الخروج منها، لأن الاختيار يرتبط بمسائل وأوضاع أخرى ليس من السهل التجاوز عن انعكاساتها وتداعياتها. ونجد الولايات المتحدة تقف مع حق تقرير المصير بقوة لشعب مسلم بينما هي وبعض الدول الأوروبية تتعرض للإسلام بالسوء تجاهلاً لحقيقة أن بعض المسلمين لا يمثلون الإسلام، ونجد أوروبا تنقسم إزاء هذا الموضوع كله، ولا تجد القدرة للتوصل على موقف محدد. وهكذا نرى صدامات بين مبادئ قد يكون كل منها حاملاً لشيء من الحق والمنطق، ولكن التوفيق بينها كثيراً ما يصطدم بالمطلق في مواجهة النسبي، أو على رأي المثل الفرنسي الذي يقول: إن البحث عن الأفضل قد يكون عائقا أمام الجيد.

وما دمنا في مجال الأحاديث المرسلة، وما دمنا قد انتقدنا في طياتها المواقف الأمريكية، فمن العدل أن أبدي إعجابي بالحملات الانتخابية الأمريكية الحالية من ناحية تنوع المرشحين المتطلعين إلى رئاسة الجمهورية بين سيدة ورجل من أصل أفريقي، ومنتم الى طائفة «المورمون» و«قس» ومحافظ له مواقف تغضب غلاة المحافظين. وبصرف النظر عن النتيجة، فإن من الإيجابي أن أفراداً مختلفين الى هذه الدرجة، يشعرون بأن هناك فرصة أمامهم لكي يتنافسوا بجدية.

وتصل الأحاديث المرسلة الى شواطئ أخرى، تشير إلى زلزال تجمعت إشاراته في باكستان، بعد هزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات، وربما في كوبا أيضاً بعد استقالة كاسترو.

العالم اذن تغير من نواح كثيرة، والسؤال المهم هو: كيف نرسم طريقنا في عالم يبدو لي أنه في مرحلة من مراحل الانتقال المهمة التي مرت بها البشرية، وهناك دلائل كثيرة على هذا تتجاوز اللقطات التي تدافعت الى قلمي من دون ترتيب أو تخطيط مسبق، فأثارت مشاعر وأفكارا قد لا تبدو مترابطة، ولكنها تمثل وقفة على باب لعل وراءه من القلق قدر ما وراءه من الأمل.