خصخصة الحياة السياسية

TT

يبدو أن الحملة الانتخابية الأمريكية الراهنة هي قبل كل شيء تنافس بين ثلاث قصص وثلاث مغامرات تتصارع على مخيلة الأمريكيين: جون ماكين الضابط المغوار الذي قاتل الفيتناميين بشجاعة وظل أسيرا مهانا معذبا في سجونهم مدة سنتين كاملتين، الشاب الأسود المفوه الذي يرمز لنجاح ابن المهاجر الفقير المنبوذ في بلاد الحلم الأقصى، المرأة الصبور التي سكتت على الخيانة والإهانة لتكون أول رئيسة في بلاد شديدة المحافظة سياسيا.

في هذا المسرح العاطفي الصاخب تتحول الأجندة الداخلية والخارجية الى المواقع الثانوية، وتصبح أصول أوباما المسلمة وعشيقة ماكين المطرودة وعلاقة هيلاري بزوجها هي الموضوعات التي تستأثر باهتمام الشارع الأمريكي ووسائل الإعلام السيارة.

من قبل كتب الرئيس بيل كلينتون في مذكراته الطريفة انه لا يعرف هل كتب كتابا هاما، لكنه متأكد أنه كتب قصة ممتعة ومثيرة. والواقع أن كلينتون هو أول من دشن خط خصخصة الحياة السياسية في أمريكا، بقصص مغامراته النسائية التي شغلت الأمريكيين أكثر من أي موضوع آخر، على الرغم انه كان رئيسا متميزا ترك أثرا مكينا في تاريخ بلاده.

لمسنا الظاهرة ذاتها في فرنسا خلال الحملة الانتخابية السنة المنصرمة، التي تصارعت فيها المرأة المتمردة الطموح التي رفضت مؤسسة الزواج وان أنجبت أولادا من رفيقها في الحزب قبل أن تتخلى عنه بعد الاقتراع، وابن المهاجر النشط الذي وصفته صحيفة «لوموند» بالشخص الهوليودي الذي لم يفتأ يشغل الفرنسيين قبل وبعد وصوله للإليزيه بغرامياته وهروب زوجته منه قبل طلاقهما ثم زواجه ثانيا من عارضة الأزياء التي عاشت معه قبل الاقتران الشرعي وسافرت معه الى صحراء سيناء المشمسة تحت عدسات المصورين.

وقد علق أوانها المرشح اليميني المتطرف جان ماري لوبن على منافسيه الرئيسيين (ساركوزي وسيغولين رويال) بان مصير فرنسا في خطر، ما دام يتراوح بين «رجل ديوث» (إشارة الى مغامرات سيسيليا زوجة ساركوزي السابقة) و«امرأة فاسدة» (اشارة الى اقترانها مع رفيقها هولاند من دون زواج).

في هذا الاتجاه تندرج السير الذاتية الرائجة للحكام التي تلاقي اهتماما واسعا، وكذا الأفلام الوثائقية حولهم، والتحقيقات الصحافية حول انتماءاتهم الدينية وأصولهم العائلية وعلاقاتهم العاطفية.

وركب الموجة الفنانون والممثلون ورجال الدين والرياضيون الذين اكتشفوا أن باب السياسة لم يعد محظورا عليهم، منذ أن أصبحت مسرحا مثيرا  تتصارع فيه أقنعة وشخوص.

ويربط الفيلسوف الإسباني دانيال ايناريتي بين ظاهرة خصخصة الحياة العامة وظاهرة موازية هي الاختراق العمومي للخواص، التي تتجسد في  نشر الأشخاص العاديين لحياتهم الخاصة في وسائل الإعلام، بحيث أصبحت للمغامرات الخاصة والقصص الفردية والمآسي العائلية الأولوية على المستجدات السياسية وأحوال الدول والبلدان.

فكما أن البرامج السياسية تحولت الى قصص فردية ومغامرات شخصية، فان الأفراد العاديين تحولوا الى عناصر جاذبة للاهتمام العام، ما دام المعيار المؤثر في الدائرة العمومية ليس النشاط السياسي بل الانفعال والعاطفة، ليس الكفاءة بل الجاذبية الشخصية. يتعلق الأمر هنا بانحراف خطير في مسار الدولة الديمقراطية الغربية التي قامت على الفصل الجذري بين العام والخاص، الذي هو منبع بعض مرتكزاتها مثل العلمانية الفاصلة بين الاعتقاد الديني الفردي والفعل العمومي، وبين الأذواق والنوازع السلوكية الذاتية والالتزامات المتعلقة بتسيير الشأن الجماعي.

فإذا كان الحاكم ـ كما تخبرنا كتب التراث ـ كان يقتل بسبب كلمة تغيظه وينقل جليسه من الغنى الى الفقر بسبب نكتة تضحكه، فان ميزة التجربة السياسية الحديثة هي السمة التجريدية للسلطة التي تتماهى مع مفهوم الكلي الجماعي، أي ما عبر عنه المفكر الفرنسي كلود لفور «بالخانة الفارغة» في دائرة الحكم التي لا يمكن اختزالها في فرد بعينه، بل تكرسها مؤسسات تستمد شرعيتها من عقد التفويض الاجتماعي الذي هو جذر المرجعية السياسية. ولا يمكن فصل ظاهرة خصخصة السياسة عن الأزمة العميقة التي يعاني منها الشأن السياسي، من حيث الخطاب والممارسة وتركيبة الأشكال التنظيمية. ان هذه الأزمة هي التي تفسر ظواهر مثل حالة انبثاق المعطى الديني مجددا في الحقل العام الذي أقصي منه، كما تفسر نكوص الرأي العام عن الرهانات الانتخابية وعدم ثقته في النخبة السياسية.

وهكذا لم يعد للسياسي مخرج سوى ان يكون واعظا أو مهرجا لكسب ود الناس واستثارة اهتمامهم.