تعالوا نحتكم إلى (العقل الإنساني).. في قضية الإساءة للنبي

TT

لنستدعي (العقل) ونحتكم إليه.. فالعقل الصحيح المنطقي (مشترك إنساني) يصح الرجوع إليه ولا سيما حين تختلف المرجعيات الأخرى.

ما الهدف من إساءات غربية توجه الى نبي الاسلام. ثم (تتكرر) ثم يطالب بتوسيعها و(أوربتها) مسؤولون رسميون؟!

هل الهدف هو (صد) الناس عن محمد رسول الله وعن دينه؟ أو التقليل من إقبال غير المسلمين على الاسلام؟

هذا هدف (غير عقلاني). أي أنه هدف متعذر أو مستحيل التحقيق.. وهذان برهانان ـ فحسب ـ من عشرات البراهين التي تدلل على الاستحالة:

1 ـ امرأة دانماركية أسلمت ثم حجت ثم روت تجربتها فقالت: «لفت نظري مشاهد الهجوم والدفاع تجاه، رجل اسمه محمد، وتساءلت: لماذا ينشغل أناس بالهجوم على رجل بيننا وبينه 1400 سنة؟. ولماذا يحب المسلمون هذا الرجل كل هذا الحب وقد فصل بينهم وبينه 1400 سنة أيضا؟.. وقد قادتني هذه الأسئلة الى البحث والاستقصاء عن حقيقة الأمر: من هو محمد؟.. وما هو دينه. ومن خلال البحث الفكري الحر: اقتنعت بأن الاسلام دين الحق، وان رسول الاسلام رسول حق، ونبي صدق فآمنت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا رسولا.. ثم حججت فازددت متعة روحية، وانبهارا بحقيقة الاسلام».. ولقد ألفت هذه المرأة نفسها كتابا عن رحلتها الى الحج، وهو الآن أحد أكثر الكتب مبيعا هناك.

فإذا كان هدف الحملة المسيئة هو (الصد) عن محمد ودينه، فالبرهان العقلي الواقعي الآنف يثبت استحالة تحقيق هدف الصد.

2 ـ إذا كان البرهان السابق مشتقا من صميم: الواقع الراهن، فإن البرهان التالي مصوغ من (الواقع التاريخي).. فالصد عن محمد ودينه ليس جديدا، من مبتكرات القرن الحادي والعشرين، بل هو (برنامج) معروفة مضامينه وأساليبه، ومعروف اصحابه وممارسوه، منذ أوائل القرن السابع الميلادي، وهي الحقبة التي ابتعث فيها محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبيا رسولا حيث تنزل عليه الوحي الأعلى بالهدى ودين الحق: «وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم».. ولقد أخذ (الصد) عن محمد ودينه صورا وصيغا شتى، منها مثلا:

أ ـ صورة الشتم والقذف بأسوأ الأوصاف وأبعدها عن العقلانية والواقعية: «وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون».

ب ـ صورة الاستهزاء والضحك الساخر والتغامز على المؤمنين بالرسالة: «إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون».

ج ـ وصورة (التشويش) على الرسالة: لئلا تصل الى السامع صافية نقية واضحة، «وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون».

د ـ وصورة الاستهداف المباشر لشخصية النبي: بالسجن أو الاغتيال أو النفي: «وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك».

هـ ـ وصورة (الصد) عن محمد ودينه برصد الميزانيات المالية الموصلة الى هدف (الصد) هذا: «إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله».

و ـ وصورة (الصد) عن محمد ودينه بالحرب العسكرية الشاملة ـ في بدر مثلا ـ فأعداء محمد «خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله».

وبالمنطق العقلاني الواقعي، كان ذلك كله مطلبا (مستحيلا)، بدليل انه لو أن تلك المحاولات قد نجحت لطويت صفحة الاسلام واهله في القرن السابع الميلادي.

ولكن ذلك لم يحدث، بدليل:

أ ـ أن القرآن قد اكتمل نزوله وحفظه: بأجزائه الثلاثين وأحزابه الستين، وآياته التي تربو على ستة آلاف آية، وذلك (تصديق) عملي لقول الله جل ثناؤه: «وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد».

ب ـ وان رسول الاسلام بقي قويا سليما معافى معصوما من القتل والاغتيال حتى أكمل الله له الدين وأتم عليه النعمة وحتى هيأ الله له ان يقول في ختام حياته الشريفة في حجة الوداع: «ألا هل بلغت، اللهم فاشهد».. ومن الإعجاز القرآني: أن يتنزل عليه بعرفة قول الله سبحانه: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».

وهي آية مسبوقة ـ مباشرة ـ بنص معجز أيضا وهو: «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم».. فمن مفاهيم هذا النص: ليمتلئ الصادون عن محمد ودينه يأسا وقنوطا، أي أن ييأسوا ـ باطلاق ـ من محاولات وتدابير النيل من الاسلام ونبيه، فقد بذلوا كل ما وسعهم وطاقتهم وتفننوا في وسائل وأساليب وصور (الصد) والتخذيل والتعويق والتشويه والتشويش. فخابت محاولاتهم كلها بدون استثناء نعم.. يجب أن ييأسوا ـ باطلاق ـ.. وماذا عساهم ان يفعلوا بعد ان تم الوحي والبلاغ، وكمل الدين وتمكن الإيمان من قلوب المسلمين تمكنا استعصى على التشكيك والفتنة والكيد والتخويف بالموت؟.. ما عساهم ان يفعلوا؟.. وماذا بقي في جعبتهم من سهام؟.. ايستطيعون هدم الاسلام بعد أن اكتمل بناؤه، وهم الذين لم يستطيعوا أن يبلغوا هذا الهدف: في مبتدأ التنزيل، وحين كان المسلمون قلة مستضعفة في الأرض؟!

ج ـ ثم ـ بناء على ما تقدم ـ ان أمة المسلمين بقيت وتكاثرت حتى أصبحت اليوم تمثل خمس سكان العالم، وهي أمة ـ على ما بها من ضعف ـ لا تزال تحب نبيها حبا جما، وكأنه بين ظهرانيها صلى الله عليه وسلم، وهو الحب الغامر الذي كان أحد بواعث المرأة الدانماركية على الاهتداء الى الاسلام.

ذانك برهانان قاطعان ـ من الواقع الراهن، ومن الواقع التاريخي ـ على الاستحالة العقلية والواقعية للصد عن محمد ودينه: بنشر تلك الرسومات المسيئة ونظائرها.

هل ثمة سبب أو هدف آخر ـ عقلاني ـ وراء الاساءة لنبي الإسلام ـ؟ لنفترض ان هذا السبب هو: ان محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء بدين معاد للانسان والانسانية، ومعاد للأديان السماوية كافة، وانه لهذا السبب العام يسيء إليه المسيئون.. فهل هذا الافتراض صحيح بالمقياس العقلاني الاستقرائي المعرفي الموضوعي؟.. لا نتعجل بالجواب، بل نترك للعقل أفسح مساحات الحرية لكي يكتشف الجواب من خلال منظومة من (المعارف)، صيغت في شكل أسئلة: تحريا لتمام الحياد.

1 ـ أيسيئون لمحمد لأنه (حط) من قيمة (العقل الإنساني)، ودعا الى إماتته.. هذه دعوى غير عقلانية: ببرهان أن هذا النبي قد جاء ليحرر العقل من أصفاد التقاليد والخرافة والوهم، ولكي يطلق حريته في قضية الإيمان بالله: «أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون».. وفي قضية كسر التقليد الحاجب من الإيمان: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون».. وفي قضية تحريك (الجمود الفكري).. «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا».. وفي قضية دفع الإنسان دفعا الى النظر الذكي السديد في الطبيعة أو الكون: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق».. وترتب على هذا التحرير القوي والواسع النطاق للعقل الإنساني: نهضة تنويرية حضارية كبرى في جزيرة العرب: امتدت بضيائها الى العالم كله.. وقد سجل ذلك ـ بحياد عقلاني ـ مؤرخ أوربي شهير هو ارنولد توينبي الذي كتب يقول ـ في كتابه: تاريخ البشرية ـ: «كان لعبقرية النبي محمد اثر كبير في نقل رسالة ربه الى قومه، وقد كان تاريخ الجزيرة مرتبطا بذلك، وفي سنة 622م تبدل الوضع تماما لمصلحة محمد ورسالته، وبعد ذلك انتشر الاسلام في العالم وأثر فيه بعمق».. ولقد تحدث عن هذا التأثير العقلاني التنويري للاسلام ـ في الحضارة الإنسانية ـ رموز معرفية إنسانية عديدة منهم: جواهر لال نهرو الزعيم الهندي المعروف.. والفيزيائي الايرلندي جون يزموند برنال.. والمؤرخ البريطاني هربرت ويلز.. والمؤرخ الأمريكي المعاصر بول كندي.

2 ـ أم يسيئون إليه لأنه: حط من (كرامة الإنسان).. هذه أيضا دعوى غير عقلانية، بدليل نص الآية السبعين من سورة الاسراء: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».. والنص قاطع بأن (الكرامة) تنتظم بني آدم جميعا: أسودهم وأبيضهم وأحمرهم وأصفرهم: بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم ومستوياتهم المعيشية.

3 ـ أم يسيئون إليه لأنه دعا الى التناكر بين البشر ووضع فواصل صلبة وشائكة بين مجتمعاتهم وقاراتهم وشعوبهم؟.. هذه دعوى مناقضة للعقل والحقيقة الموضوعية، ذلك أن الآية 13 من سورة الحجرات تنقض هذه الدعوى: «يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».

4 ـ أم يسيئون إليه لأنه حفز على تجاهل الأديان السماوية، وعلى الكفر بالمرسلين السابقين؟.. هذه دعوى غير عقلانية، بدليل أن محمدا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ دعا الى الإيمان بجميع الكتب السماوية، وبمن نزلت عليهم من النبيين:«قل آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون».

بقيت دعوى واحدة، لعلها تسوغ منطق المسيئين الى نبي الاسلام وهي: إنهم يقومون بهذه الإساءة: نصرة لديانة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.. بيد أن هذا منطق ينطوي على إساءة الى المسيح نفسه، بدليل إن سيدنا المسيح كان عف اللسان لا يسب ولا يسيء قط.. ذات يوم مرّ بخنزير ينفث فقال:«انفث بسلام» فقال تلاميذه: انه خنزير!! فقال: «كل ينفق مما عنده»، أي إن اللسان يترجم ما في الضمير، وليس في ضميري إلا الخير والكلم الطيب.