فليبادر العرب بخيارات نظام أمني لمرشحي الرئاسة الأمريكية

TT

في مثل هذا الوقت منذ سبع سنوات، تذيلت السياسة الخارجية قائمة اولويات الرئيس جورج دبليو بوش؛ فأسابيع قبل دخوله البيت الابيض ضاعت جهود استثمرها سابقه بيل كلينتون لحل ازمة الشرق الاوسط هباء.

نصح الرئيس بوش الأب ابنه بتجنب رمال الشرق الاوسط المتحركة.

وكان الجمهوريون عادوا للبيت الابيض بعد ان دمرت ازمة رهائن السفارة الامريكية في طهران فرصة جيمي كارتر لفترة ثانية رغم صنعه التاريخ عام 1979 بمعاهدة السلام المصرية الاسرائيلية.

اجبر عدوان القاعدة الارهابي بوش على مخالفة نصيحة ابيه بعد تسعة اشهر في البيت الابيض، وتداخلت خطوط الحرب على الارهاب، مع ديبلوماسية الشرق الاوسط لتعيد ترتيب محاور الحلفاء والخصوم بما لا تشتهيه واشنطن.

وسواء رضي القراء الاعزاء ام ابوا، فلا غنى عن دور اساسي امريكي لنظام امن المنطقة وإعادة رسم محاور التسوية. ليس لأنها القوة العظمى الوحيدة اليوم فحسب، بل لان امريكا هي النموذج الأنجح في صهر العرقيات والثقافات في وعاء الدولة القومية الديموقراطية التي يتساوى فيها الجميع امام القانون.

كما تتسق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية مع دستورها ورسالتها لنشر الحرية والديموقراطية بشكل يجعل التناقض بين المصالح والمبادئ الذي يفرضه عدم قدرة الانظمة الديموقراطية على انتهاج سياسة يرفض الناخب تحمل اعبائها الاقتصادية والاجتماعية، اقل من التناقضات المماثلة في معظم الديموقراطيات الغربية.

اهم تحدي سياسة خارجية يواجه الرئيس الامريكي الجديد سيكون اصلاح نظام امن شرق اوسطي أخلّت النتائج غير المحسوبة لحرب العراق بتوازنه.

سيغرق الرئيس الجديد في بحر تحليلات ودراسات الخبراء من داخل الادارة، ومن اخصائييها السابقين العاملين في خزانات تفكير، قبل اتخاذه القرار الاستراتيجي.

هل يمكن التوصل لحالة من الاستقرار لفترة تكفي لإعادة التوازن لنظام الامن الاقليمي ؟

وستظهر دراسات مناقضة تجادل بان المنطقة ستصبح مسرح المواجهة في حرب حتمية طويلة الامد بين الثوريين الجهاديين الاسلامويين في ناحية، وبين محور دول قومية مستقرة حليفة لواشنطن في ناحية اخرى .

اغلب خيوط تحديات امن الشرق الاوسط بما فيها تلك التي كانت محصورة في دائرة المشاكل التقليدية ـ كالصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وخلاف الاخيرة مع سوريا ـ تقود الى ايران، مما يشير الى حتمية الصدام معها لحماية مصالح الحلفاء.

ايران الثورية تهدد مصالح القوى الاقليمية الكبرى، كمصر والسعودية قبل مصالح امريكا، وتهدد استقرار العراق والخليج ولبنان، وتعرقل تطور الليبرالية الديموقراطية وتخرب فرص السلام الفلسطينية الاسرائيلية.

غياب استراتيجية اقليمية متكاملة عن افق ادارة بوش كان عاملا اساسيا في تقوية نفوذ ايران، بإزالتها لخصميها اللدودين، نظام طالبان في افغانستان، والبعث في العراق.

كان وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، القى محاضرات عن التشابه بين اوروبا القرن 19، والشرق الاوسط اليوم، مقارنا نجاح الديبلوماسية الاوروبية بزعامة النمسا في مؤتمر فيينا 1814- 1815، بعجز القوى الاقليمية والدولية عن التوصل لتسوية ديبلوماسية شرق اوسطية على غرار تسوية فيينا قبل 188 عاما.

قارن كيسنجر بين ايران المعاصرة وفرنسا في مطلع القرن الـ 19.

ايران اليوم مصدر قلاقل وتصدير الثورة والمتاعب للجيران وما وراء الجيران، ولها اطماع توسعية، كفرنسا ما بعد ثورة 1789، كما بينت الحروب النابوليونية.

رأت القوى الاوروبية الكبرى ـ بريطانيا، النمسا، روسيا وبروسيا ـ في فرنسا الثورة مصدر خطر على استقرار الدولة القومية الاوروبية وتوزانات الوضع في القارة، وبالتالي تدخلت في وقت مبكر لاحتوائها، بمزيج من الديبلوماسية والضغوط الاقتصادية والحرب.

أخطأ الغرب ـ ولايزال مستمرا في الخطأ بفضل تقارير الاعلام اليساري ـ بالتقليل من مدى الخطورة الاستراتيجية طويلة المدى لثورة الخميني عام 1979 واعتبرها حادثا عابرا يستقيم بعده التاريخ في مساره الطبيعي. وكان من الاجدر استيعاب درس الثورة الفرنسية قبل الخمينية بـ 110 اعوام، لتشابه الاثنتين في تأثيرهما الاقليمي والايدولوجي والأطماع التوسعية لنظام الحكم الذي أفرزته كل منهما.

كل منهما اطلقت زلزالا هدد استقرار الدول المجاورة، وهددتا نظام الامن الاقليمي، وكلاهما اطلق شرارة ـ ودعم ـ ثورات او منظمات لتخوض حروبا بالوكالة، وكلاهما تسبب في حروب احتوائية اضطر الجيران لشنها لدرء التأثير المدمر عن شعوبها.

تلاميذ المدرسة الكيسنجرية يدعون لنسخة شرق اوسطية من مؤتمر فيينا في القرن الـ 19 (ديبلوماسية المستشار النمساوي ميترناخ كانت موضوع رسالة دكتوراة كيسنجر). ويسوقون سابقة امكانية التعاون الامريكي الايراني ضد القاعدة في افغانستان في خريف 2001 وشتاء 2002؛ ثم في العراق عام 2003. بل ان ايران ارسلت لواشنطن بوثيقة ترسم فيها خطوط التعاون بين الطرفين وأسس بداية الحوار وقتها.

نقطة ضعف جدل الكيسنجريين اغفالهم ان التعاون الامريكي الايراني كان ممكنا عندما احس الطرفان بقوتيهما (امريكا بتواجدها العسكري ودعم الحلفاء العرب وانتصارها على الطالبان) وإيران التي قويت، بإزاحة خصميها شرقا وغربا؛ لكن تناقض القيم الاساسية للطرفين جعل عمر التعاون قصيرا؛ وكان الامريكيون غير واقعيين بالاعتقاد ان الثورة التصحيحية ـ او المضادة ـ على وشك الاطاحة بنظام الملالي في ايران.

الضعف الاخر، ان نجاح تسوية فيينا يعود لهزيمة نابليون بونابارت، كوريث الثورة الفرنسية، على الجبهة الروسية عام 1812، وانتهت مناورات عامين من الديبلوماسية بتسوية مؤتمرات فيينا.

هذه شروط لا تتوفر مع حالة ايران التي لم تهزم بعد بشكل ينهي نفوذها الخارجي كما لم يظهر بونابرتها بسبب استمرار الحالة الثورية.

سنحت فرصة خاطفة بتجرع اية الله الخميني كاس السم عام 1988، قابلا وقف اطلاق النار دون تحقيق اهدافه المعلنة بمعاقبة صدام حسين وتصدير الثورة، لكن واشنطن لم تستغل الفرصة بمبادرات ديبلوماسية تشبه ما حدث في القرن 19 عندما استغلت قوى الاستقرار الكبرى Status-quo powers كبريطانيا والنمسا هزيمة بونابرت لتعيد النظام الامني والتوازن الاستراتيجي لحالته عشية الثورة الفرنسية.

وفاوضت لندن وفيينا القوى الاستيلائية التوسعية كروسيا وبروسيا على السماح لابتلاعهما غنائم هزيمة بونابرت، مقابل نظام ساعد فرنسا على «الشفاء» من هستيريا تصدير الثورة والطموحات الخارجية.

المدرسة الاخرى الواقعية ستحث الرئيس الامريكي القادم على تحديد مصالح الاطراف الرئيسية الكبرى، ومحاولة تجربة ديبلوماسية المقايضة.

ولذا يجب دعم محور تحالف امريكي مع قوى الاستقرار الاقليمية التي تسعى لنظام توازن امني يعيد استقرار ما قبل الثورة الخمينية.

ايران لن تسلك طواعية، مسلك فرنسا في مؤتمر فيينا، لأنها لم تتعرض لهزيمة بونابرتية قلمت مخالبها الثورية؛ وبالتالي تتلخص خيارات القوى الاقليمية، قبل امريكا نفسها، في اتخاذ اجراءات احتوائية، بما فيها الحرب كأمر حتمي لضمان بقائها بإبعاد الخطر الثوري عن حدودها.

استراتيجية يجب ان تضعها القوى الاقليمية الكبرى محل الدراسة، وتنسق فيها مع كل من المرشحين الديموقراطي والجمهوري، قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر.