ما ينفع سورية «غير المستكبِرة»

TT

يجوز القول ونحن نتأمل في المشهد السياسي العربي وإصرار الحكم السوري ألا يقتنع بأن الاهتمام بشؤون الداخل واعتماد العلاقة الطيبة مع المجتمع الدولي ومع الأشقاء العرب والمسلمين أفضل بكثير من الانغماس في لعبة المحاور، إن حالة الإلغاء التي نشأت عن الوحدة الاندماجية مع مصر ثم حالة الانفصال الذي أقدم عليه الجانب السوري ما زالتا تتحكمان في عقل أهل الحكم. وزاد الحالتين تعقيداً أن لبنان المستصغَر من جانبها قرر هو الآخر أن يبتعد عنها ففقدت بذلك الورقة التي كانت من خلالها تحاور أو تناور وتتصرف مع المجتمع الدولي ومع الأشقاء العرب والمسلمين تصرُّف الدولة المستكبِرة التي في قبضتها لبنان المستصغَر. وفي الحالتين كان الطرف السوري لا يُحسن التصرف. في موضوع الوحدة مع مصر كان متسرعاً ويتصرف تصرُّف المستضعَف الباحث عن حماية. وفي موضوع العلاقة مع لبنان كان مستكبِراً ويتصرف مع لبنان تصرُّف المستكبِر الذي لا يتقبَّل الرأي الذي يتحفظ على سلوكه ولا يصغي الى النصيحة التي من شأنها تصحيح المسار.

بل ان سورية لا تستكبِر وذات علاقة متوازنة على قاعدة التصحيح مع لبنان غير المستصغَر، ستجني من الازدهار السياحي والاستثماري المشترك المليارات التي تغنيها عن كل هذه التطلعات. ويستغرب المرء كيف أن قيادة شابة من نوع القيادة السورية الحالية لا تفعل ذلك وتفضل ركوب المخاطر على اعتماد ما من شأنه تحقيق الطمأنينة والازدهار.

إذاً، إنها عقدة الإلغاء ووزر الانفصال ما زالا يتحكمان مع ان رجاحة التفكير توجب على الذي يملك القرار أن يكون دائماً على استعداد للأخذ بالتصويب والتعديل. ومناسبة هذا الكلام هو اليوبيل الذهبي لإلغاء سورية كدولة مستقلة ذات سيادة وانصهارها في «الجمهورية العربية المتحدة» مع مصر، الذي صادف قبل ايام (23 ـ 2 ـ 2008). ففي مثل هذا اليوم قبل خمسين سنة (اي 23 ـ 2 ـ 1958) أُذيب قلب العروبة النابض (سورية) في وحدة اندماجية طلبها الرئيس السوري شكري القوتلي من جمال عبد الناصر الذي كان زمنداك في الأربعين من العمر أي في السن الحالية للرئيس بشَّار الأسد. وفي ذلك اليوم أيضاً وُضع الحجر الأساس لظاهرة الإجماع على إبداء الرأي من خلال الاستفتاء فما عادت نسبة اي استفتاء تقل عن 95 في المائة. يا لذلك الأسلوب غير الموضوعي في إبداء الرأي.

المهم أنه منذ ذلك اليوم نشأت في سورية عقدة الكيان المُلغى واستمرت تتفاعل الى أن جاء وضع اليد على لبنان يشكل محاولة علاج لهذه العقدة. لكن التطورات الناشئة عن أسلوب التعامل السوري مع لبنان والذي كان في بعض جوانبه أشبه بالسلوك المصري الناصري مع سورية أدى الى نهاية واحدة حيث أصبحت سورية لا تتطايق مع مصر وبالتالي لا تستعاد تجربة الوحدة رغم وجود تيار عريض داخل سورية عمل في اتجاه الاستعادة المشار اليها. وفي لبنان أصبح الوطن المستصغَر لا يتطايق مع سورية على رغم وجود تيار عريض داخل لبنان يوالي الحكم السوري ويتطلع الى عودة الحال الى ما كانت عليه قبل إجبار الحكم السوري على سحب المائة ألف عسكري الذين كانوا يرابطون في كل لبنان.

وبدل ان يكون هذا الانسحاب ذريعة مثالية لكي يطوي الحكم السوري الورقة اللبنانية القديمة من كتاب العلاقات ويبدأ تسطير صفحة جديدة وفي الوقت نفسه يتم التركيز على أمور الداخل والبدء بمرحلة التصحيح الثاني، أو تصحيح الرئيس الأسد الابن لما كان بدأه الرئيس الأسد الأب، ويجني الرئيس المصحِّح من ذلك رضى الناس عليه واطمئنان الجيران اليه والاستحواذ على نسبة كبيرة من الاستثمارات، فإنه وجد نفسه يستحضر عقدة الماضي المتمثلة بإذابة الكيان السوري في الوحدة مع مصر وكذلك العقدة الناشئة عن انفصال سورية عن مصر، ثم يتكل على الحليف الإيراني والأعماق اللبنانية لهذا الحليف ليقرر أن انتزاع لبنان منه سيجعل العقدتين تؤسسان لعقدة ثالثة، مع انه لو يستحضر ما فعلته الدولة الأكبر مصر وزعيمها عبد الناصر المجروحة مشاعره من الانفصال السوري وكيف رأى أن المحافظة على مصر والشمل المصري تبقى أكثر سلامة من ركوب خطر معاودة رتق الثوب الذي تمزَّق نسيجه فلم يتدخل وطوى الصفحة على رغم مرارة مفرداتها، لما تردَّد في أن يفعل الشيء نفسه، لكن الحكم السوري لا يستحضر ليس فقط لأنه ربما لا يريد وإنما لأن حليفه الإيراني لا ييسِّر له الأمر، وهو حليف لم يتأمَّن مثيله في حينه لعبد الناصر لكي يجعله يتردد في اتخاذ خطوة من المصلحة اتخاذها، هذا لمن يريد سلامة البلاد وهدوء بال العباد... وعقْد القمة العربية الدورية في اجواء من تآلف القلوب وصفاء النوايا.