هل السعودية بحاجة لصناديق ثروة سيادية؟

TT

الإجابة المباشرة والواضحة، أننا بالفعل بحاجة ماسة لمثل هذه الصناديق.. ولكن السؤال الأهم هو.. هل لدينا صناديق سيادية الآن؟.. أيضاً الإجابة بنعم، فلدينا صناديق وليس صندوقا واحدا سياديا، وهي صناديق تمويلية وتنموية تركزت في استثماراتها على السوق المحلي كل حسب اختصاصاته، حفظت لنا مليارات الريالات التي استفاد منها ملايين المواطنين ولازالت الأموال تدور فيها. وقبل ان نستطرد بالموضوع أيضاً لا بد لنا من أن نحدد ما هو المقصود بالصندوق السيادي؟ هل يجب أن يكون صندوقاً منشأ لغرض جمع أموالنا فيه للاستثمار في الخارج؟ وهل الغرض منه أن تكون أموالنا جاهزة ومهيئة للاستثمار في المؤسسات المالية العالمية عندما تواجهه مشاكل بحجة وجود فرص استثمارية خارجية وبحجة تنويع الاستثمار وكأن الاستثمار المحلي ليس تنوعاً... أم هي صناديق سيادية تقام في المملكة لتقديم قروض لمشاريعنا، وإسكان شعبنا وكل أوجه التنمية في المجتمع وتنويع الدخل على المستوى المحلي. وأيضاً وقبل الاستطراد أود أن أؤكد أن المقصود بالسيادي هو ليس فقط كون الأموال مملوكة للدولة، وإنما يجب أن تكون سلطة وسيادة الحكومة على هذه الأموال وحرية حركتها مضمونة.. وهذه الشروط غير متوفرة الآن لمثل هذه الصناديق الخارجية التي يتحدث عنها الجميع. فالكل يعرف أن للحكومات الأجنبية تحفظات كبيرة على نوايا هذه الصناديق ولا تترك لها حرية الاستثمار.. إلاّ في حالات افلاس مؤسساتهم المالية او مصانعهم كمنقذ لنظامهم المالي، كما ظهر من تجربة «سيتي بنك» لزيادة رأسماله بعد أزمة الرهن العقاري مع ابوظبي.. وما تجربة موانئ دبي في امريكا ببعيدة عنا.. حيث نظر لها على انها تهديد كبير للأمن القومي ولقد بدأت ظاهرة تأخر إعطاء الموافقات اللازمة لهذه الصناديق للاستثمار في مشاريع واعدة وواضحة للجميع. وكلنا يعلم أن كل صناديق السيادة المملوكة لحكومات نفطية تفتقد للشفافية.. وهذا ما يدفع الآخرين للشك فيها، مما يزيد عداء الساسة وغيرهم من المستثمرين الذين يخافون منافسة هذه الصناديق، خاصة أن (ثروة الصناديق السيادية تقدر بين ألفي مليار وثلاثة آلاف مليار دولار، وربما تتضاعف خمس مرات في العقد القادم حسب توقعات الخبراء).

والآن للإجابة على سؤالي الرئيسي: هل لدينا صناديق سيادية؟ فالجواب نعم. فلدينا عدة صناديق .. لدينا صندوق الاستثمارات العامة، ولدينا الصندوق السعودي للتنمية الصناعية ولدينا صندوق التنمية الزراعي ولدينا صندوق التنمية العقاري ولدينا بنك التسليف وبرامج أخرى تحتفظ بمئات المليارات من النقود تستثمر داخلياً بعوائد مجدية ولازلنا بحاجة لصناديق استثمار سيادية في قطاعات عدة لسد حاجة مجتمعنا.

فصندوق الاستثمارات العامة والذي تجمع فيه فوائض أموالنا والتي تستثمر من خلال مؤسسة النقد في خيارات ذات سيولة عالية لسهولة تحويلها عند الحاجة الوطنية، يقوم بتمويل المشاريع التنموية الوطنية الكبيرة، مثل تمويل كل مشاريع الخطوط الحديدية وشركات الكهرباء والتحلية وغيرها على أسس تجارية وكذلك المشاركة في تمويل المشاريع الصناعية العملاقة مثل مشاريع البتروكيماويات والتي ساعدت مع الحوافز الأخرى مثل البنية التحتية وتجميع وتوفير الغاز على أن تكون المملكة مركزاً عالمياً لصناعة البتروكيماويات.. ولا ننسى أن العائد المالي للصندوق عائد تجاري أفضل من العوائد المتوقعة من الخارج.

إن كل المشاريع التي خصصت من قبل الدولة لا يمكن تمويلها تجارياً من المؤسسات المالية دون مساعدة من تمويل صندوق الاستثمارات العامة والتي توصف بكونها طويلة الأجل ومنخفضة التكاليف. فهل الأفضل أن ننشئ صندوقاً سيادياً خاصاً للاستثمار الخارجي لتمويل ومساندة المشاريع الخارجية بحجة تنويع استثماراتنا وضمان دخل مضمون لأجيالنا المستقبلية؟ فأي ضمان في الشركات المعروضة للبيع والمفلسة .. بدلاً من صندوق سيادي محلي يقدم كل هذه الخدمات المذكورة للمواطن.. فكل متابع لاجتماعات مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة ويقرأ قراراته الصادرة والتي تنشر دائماً بالصحافة المحلية والمتعلقة بتمويل المشاريع التنموية العملاقة تجعلنا نقدم تجربة تنموية رائعة للعالم الثالث، فكل أموالنا يستفيد منها كل مواطن هذا مع العلم بأن مجلس إدارة هذا الصندوق برئاسة معالي وزير المالية وعضوية كل الوزراء ذوي العلاقة بالاقتصاد الوطني وذوي الاختصاص. «(ملاحظة: في آخر اجتماع لمجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة بتاريخ 17/2/2007م، قدم تمويلاً بمبلغ 5 .11 مليار ريال لأربعة مشاريع بتروكيماوية عملاقة، باستثمارات كلية مقدرة بحوالي 50 مليار ريال)». صحيح مع الأسف أن أي استثمار أجنبي تقوم به أي دولة خليجية يأخذ بعداً إعلامياً أوسع من استثماراتنا الداخلية العملاقة وهذا قصور إعلامي للإعلام الرسمي السعودي.

أما الصندوق السيادي الآخر فهو الصندوق السعودي للتنمية الصناعية برأسمال 20 مليار ريال حالياً والذي أقرض خلال السنوات الثلاثين الماضية أكثر من 4500 مصنع أدت الى أن تكون المملكة أكبر دولة صناعية عربية وبإنتاج صناعي يتعدى 250 مليار ريال كمبيعات محلية، وبصادرات غير نفطية تتعدى 100 مليار ريال.. وخلقت فرص عمل لا تقل عن 300 الف فرصة عمل للسعوديين، وقد بلغ حجم تمويل هذه المشاريع حتى الآن 55 مليار ريال وبقيمة إجمالية تمويلية تعدت 200 مليار ريال بإضافة مساهمة المستثمرين المحليين والشركاء الأجانب ومصادر التمويل الأخرى من البنوك التجارية. إن مثل هذا الصندوق يقرض بعوائد نظير خدمات يقدمها وتضمن حفظ رأسماله مع ارباح استثمار الأموال المتوفرة من رأسماله. ويزداد رأسماله بصفة دورية من الفوائض.

أما الصندوق السيادي الثالث والعامل بالفعل بالمملكة فهو الصندوق العقاري والذي وصل حجم تمويله حتى الآن 100 مليار ريال وفرت إسكانا لمئات الألوف من المواطنين.. والأمل كبير بتوجيه بعض الفوائض المتوفرة له لضمان تمويل المواطنين المنتظرين على قائمة الانتظار وهذه المليارات الموجودة في الصندوق مستمرة في خدمة المواطنين مستقبلاً في قطاع العقار حيث أن نسبة التسديد نسبة جيِّدة مع اضافة المتوقع من التمويل الاضافي.

أما الصندوق السيادي الرابع فهو صندوق التنمية الزراعية (الاسم الجديد) والذي رصدت له الدولة مليارات قدمها كقروض للمزارعين وصيادي الأسماك ومربي النحل، وغالبيتهم من صغار المزارعين بلغت حتى عام 2007م مبلغ 40 مليار ريال قدمت لحوالي 428350 مواطناً، ونحمد الله أن نسبة التسديد للأقساط المستحقة بلغت 81% والباقي لم يحن وقته بعد.. أي أن هذه الأموال تدار في اقتصادنا الوطني مع حفظنا لها للأجيال القادمة في هذا القطاع. فالمزارعون يقدرون دوره القيادي في التنمية الزراعية والإنتاج الغذائي، وخاصة الدواجن والألبان والتمور والفواكه والقمح والشعير والتي ساعدت المواطنين في غذائهم ومعيشتهم.. تصوروا كم وفرت هذه المنتجات من مليارات الريالات كان بالإمكان استيراد ما نحتاج له بدل الإنتاج المحلي وخاصة في هذا الوقت من التضخم، والأموال لازالت في صناديقنا.

وهناك صناديق أخرى ، وإذا كان ولا بد من إنشاء صندوق جديد، حسب منطق مطالبي الدولة بصندوق سيادي، فالأفضل أن تحول كل الفوائض لزيادة تمويل هذه الصناديق المحلية وإضافة صناديق أخرى حسب حاجة المواطن.. فهناك الحاجة ماسة لصناديق سيادية لتمويل المؤسسات التعليمية والمؤسسات الطبية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى وهكذا.. وهذه الصناديق هي التي ستضمن التنمية المستدامة وتحفظ أموالنا تحت سيادتنا وسلطتنا. ولا يمنع من التطلع مستقبلاً بتحديد عوائد سنوية لمثل هذه القروض.

إن إنشاء الدول الخليجية الأخرى للصناديق السيادية الخارجية مثل الكويت وابوظبي وقطر فهي بسبب صغر حجم بلدانهم وقلة عدد سكانهم وقلة برامجهم التنموية مقارنة بالمملكة فالاستثمار الخارجي بالنسبة لهم مهم جداً لقلة الفرص الاستثمارية في هذه البلدان، أما بالنسبة للمملكة فحاجتنا الداخلية في كل القطاعات لاتزال موجودة، لذا لا يمكن أن أقبل أي استثمار حكومي خارجي مع وجود الحاجة للاستثمار المحلي وخاصة أننا نطالب المستثمرين الأجانب بالاستثمار معنا في بلدنا، فالأفضل تطوير كل الخدمات المطلوبة والمتوقعة للمواطن وللمستثمر الأجنبي. إن التزام الحكومة بتمويل برامج تطوير البنية التحتية للجبيل وينبع بمبالغ تعدت 100 مليار ريال شجع القطاع الخاص بتطوير مشاريع في المدينتين باستثمارات تعدت 400 مليار ريال وخلقت فرص عمل رائعة لشبابنا تحت قيادة الهيئة الملكية للجبيل وينبع. والآن بدأ تطوير الجبيل (2) والتي استقطبت 260 مليار ريال استثمارات سعودية وأجنبية حتى الآن والجبيل (3) في الطريق بإذن الله قبل عام 2012م، هل يوجد أفضل من هذه التنمية المستدامة لأجيالنا القادمة؟.

أما مقولة أهمية استثمار الفوائض المالية المؤقتة في خيارات أفضل لتنويع مصادر الدخل في الخارج، فهذه مقولة لا أساس لها في المملكة.. فنحن لازلنا بحاجة ماسة لتمويل مواطنينا في كل أوجه حياتهم.. ولا أفضل من الاستثمار المحلي، وما تجربة المملكة حتى الآن إلاّ قصة نجاح رائعة.. لذا فأنا لا اعتبر أن لدينا فوائض مالية، والموجود حالياً مبالغ نقدية فائضة مؤقتة ومؤجلة الصرف ولمدة قصيرة ولا يمكن ربطها لمدد طويلة.. هل سمعتم أن الحكومة السعودية اشترت حصة في شركة أجنبية أو مؤسسة مالية أجنبية.. كل ذلك بعيد عن تفكير قيادتنا وهذا سبب نجاحنا والذي يحسدنا عليه الكثيرون.

ولنفترض أن هناك حاجة ماسة لتكملة أنشطتنا المحلية التنموية والصناعية والتسويقية والتمويلية بالاستثمار الخارجي.. فبإمكان الحكومة استخدام مؤسساتها السيادية الأخرى مثل ارامكو في قطاع النفط. عند الحاجة لبناء مصافي في الخارج لضمان تسويق نفطنا الخام، او عند الحاجة لتملك تقنيات في قطاع البتروكيماويات، لم يمنع الحكومة من توجيه شركتها الرئيسية «سابك» والتي قامت بدور رائد في الصناعة الوطنية للتحرك تجارياً وشراء مشاريع شركات عملاقة مثل الـ GE وهنتسمان وكلها قرارات اتخذتها شركات متخصصة وبتمويل ضخم من المؤسسات المالية الخارجية بسبب جدوى المشاريع.

ولقد تركت الدولة الحرية الكاملة للقطاع الخاص بملياراته لكي يستثمر بالطريقة التي يراها في مصلحته وبالفعل توجهت مليارات الدولارات للأسواق العالمية واستحوذت على نسب من رأسمال عدد من البنوك والمشاريع الصناعية والعقارية وهذا مقبول وأثره الايجابي سيعود إن شاء الله على الوطن. ولكن في النهاية مسؤولية ادارته وقراراته راجعة لملاكه.

إذاً لدينا صناديق سيادية بالطريقة السعودية وأتمنى من جميع الدول العربية النفطية أن تحذو حذو المملكة ان أمكنها ذلك. فتنمية المجتمع أهم من أي شيء آخر.

ولا بد لي من أن أنهي هذا التحليل بشهادة خاصة ايجابية عن فلسفتنا السعودية التنموية، حيث وصف تقرير مالي بريطاني متخصص، نشر في جريدة اليوم السعودية يوم الأربعاء 27 فبراير 2007م الاقتصاد الوطني بأنه في اتجاه ليصبح في المستقبل القريب أحد أكبر الاقتصادات في منطقة آسيا والشرق الأوسط وأكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية خارج قطاع الطاقة. وأوضح تقرير هيئة (إنتيرا كابيتال مانيجمنت) الاستثمارية أن الاقتصاد السعودي مازال يحافظ على وتيرة نمو جد إيجابية تعكسها قوة الاستثمارات التي تقودها الدولة في مجال تطوير البنى التحتية خصوصاً في قطاعات البناء، الصناعة، التجارة، الخدمات المالية والبتروكيماويات وغيرها. وتوقع التقرير استثمارات حكومية قيمتها 600 مليار دولار أمريكي لفترة العشرين سنة القادمة في دعم قطاعات حيوية، كالبترول والغاز والماء والكهرباء.. وهذه المعطيات بقبول التقرير تؤكد سلامة السياسة المنتهجة من قبل الحكومة من أجل تطوير اقتصاد وطني لا يعتمد على قطاع المحروقات (النفط). وأثنى التقرير على حسن استغلال حكومة خادم الحرمين الشريفين للموارد النفطية وسرعة استفادتها من الطفرة المالية والعمل على إنشاء اقتصاد متكامل ومتوازن.

سؤالي أخيرا: هل كان بالإمكان الوصول لهذه النتيجة المذكورة في هذا التقرير الحديث دون ابقاء أموالنا في صناديقنا السيادية ؟. اجابة نتوقعها إن شاء الله من مستثمري أموالهم السيادية في الخارج.

* رئيس مجموعة الزامل

عضو مجلس الشورى السعودي

[email protected]