فرنسا: أئمة على مقاس الجمهورية

TT

تحديات كبيرة تلك التي تعيشها الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية ليس فقط لأنها أقليات، بل لأنها غالباً ما تجد نفسها أمام مفارقات يصعب استيعابها كأن نسمع بأن المعهد الكاثوليكي الفرنسي سيّتولى مهمة تأهيل وتدريب أئمة مسلمين...! لمن يستغرب الخبر فإن السلطات الرسمية ترد بأن التأهيل لن يتناول الجانب الديني بتاتاً، بل سيخّص الجانب المدني مقتصرا على تلقين الطلبة الأئمة مبادئ حول الديمقراطية، العلمانية وحقوق المواطنة داخل الجمهورية وأن المعهد الإسلامي التابع لمسجد باريس هو من سيأخذ على عاتقه مهمة اعطاء دروس في علوم الفقه والشريعة. لكن الموضوع في رأيي يبقى ذا دلالات خطيرة، وإلا فماذا يعني أن يُوكل لمعهد كاثوليكي مهمة «التأهيل الحضاري» لائمة مسلمين؟ أين هو مبدأ الحياد وتساوي الأديان...؟ الهذا الحّد يرسخ في الذهنيات الغربية الاعتقاد بان الإسلام يتنافى مع الممارسة الديمقراطية والقيم الحضارية الحديثة، أيكون المسلمون اقل تحضراً حتى يحتاجوا إلى غيرهم لاستيعاب بعض المفاهيم «الخاصة»؟ ما معنى أيضا أن تتدخل الهيئات الحكومية في دولة علمانية لتختار للمسلمين الطريقة المثلى لتأهيل أئمتهم وهي لا تفعل ذلك مع المسيحيين واليهود..؟

رمزية الخبر تأتي أيضاً من كيفية تمويل هذا التكوين، الذي يأتي جزء كبير منه من وزارة الهجرة والهوية الوطنية وكأن «الإسلام الفرنسي» كُتب عليه أن يبقى مرتبطاً للأبد بالهجرة، رغم أن 8% الى 10 % من الفرنسيين يدينون بالإسلام ويتقاسمون مع غيرهم نفس حقوق وواجبات المواطنة.. فهل يقبل المسيحيون او اليهود أن تُمّول وزارة الهجرة هيئاتهم الدينية.. قطعاً لا.

الأدهى هو أن المشهد الفرنسي لا يخلو من المؤسسات التعليمية الخاصة التي كان من الممكن تكليفها بهذه المهمة بصفة كليّة من دون الحاجة إلى إثارة حساسية المسلمين وتجريح مشاعرهم، وكان بالإمكان إلحاق أقسام للتربية المدنية بهذه المعاهد لإنهاء المشكلة. فبالإضافة للمعهد التابع لمسجد باريس، هناك المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية الذي أهّل منذ افتتاحه ما يزيد عن 120 طالبا منهم 30 إماما، ومعاهد صغيرة أخرى، ومنذ أن بدأت السلطات الرسمية تبحث في هذا الموضوع والكثير من المقترحات كانت قد قدمت لها من طرف مختصين في العلوم الإسلامية وجامعيين من اجل إنشاء معاهد متخصصة في تكوين الأئمة من دون أن تلقى صّدى.

الموضوع وإن كشف الغطاء عن مفارقات خطيرة إلا انه يطرح من جديد إشكالية حقيقية طالما أرقت الأوساط الرسمية الفرنسية وهي «مسألة تأهيل الأئمة»، ففي بلد يعيش فيه حوالي 8 ملايين مسلم ويعتبر فيه الإسلام أكبر ُثاني ديانة وأولها من حيث الانتشار لا يوجد حسب مصادر وزارة الداخلية الفرنسية أكثر من 2000 مصّلى (أغلبها عبارة عن مآرب وصالات مهجورة) تحت إشراف حوالي ألف إمام: نصفهم فقط يتخذ من الإمامة مهنته الأساسية التي يعيش منها، والنصف الآخر لا يؤُم إلا على سبيل التطوع وبصفة مؤقتة. وقد بدأت فرنسا تنظر بعين القلق لأعداد الأئمة الذين ينشطون على أراضيها بعد أحداث سبتمبر 2001 وهي تعتبر أن غالبية هؤلاء ينقصهم التأهيل الصحيح والاندماج في المجتمع مما يجعلهم فريسة سهلة للمتطرفين في ظل المعلومات التي تفيد بأن أكثر من 80 % منهم أجانب وأن أكثر من ثلثهم لا يتقن الفرنسية. صحيح أن تنظيم إسلام فرنسا قد عرف تطورات ملحوظة في ظل الرئاسة الجديدة، حيث تّم تنظيم الهيئات الممثلة للمسلمين لأول مرة في إطار المجلس الأعلى لمسلمي فرنسا، لكني لا أرى أن الأسئلة التي طرحت قد لقيت الأجوبة الصحيحة، والانطباع الذي يتبادر لدينا هو أن الموضوع كله يجري توظيفه لمصالح انتخابية بحتة من دون مراعاة مشاعر المسلمين وخصوصياتهم، والدليل ما يجري الآن من تفصيل أئمة على مقاس الجمهورية وتحت وصاية معاهد كاثوليكية، بغض النظر عن كل التوصيات التي قدمها المختصون وممثلو الجالية أنفسهم من اجل حل هذه المعضلة التي تعتبر في قلب إشكالية «الإسلام الفرنسي»، فهل يصح تنظيم إسلام فرنسا من دون إشراك المعنيين أنفسهم؟ وهل يصح معاملتهم على أنهم مواطنون قصّر يحتاجون إلى وصاية من هم أكثر تحضراً منهم بدل أن ينظر إليهم كشركاء كاملي حقوق المواطنة.. أتساءل..؟!