التوغل التركي.. والمواقف الملتبسة

TT

الدخول التركي لشمال العراق لمهاجمة قواعد حزب العمال الكردستاني افرز مواقف متباينة، لكن الوصف الذي يكاد يجمعها انها مواقف ملتبسة تثير التساؤل وهذه الحالة تنسحب على مواقف الحكومة العراقية والأطراف الداخلية الاخرى وعلى القوى الاقليمية والدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فقد وجهت انتقادات مريرة من قبل القوى الكردية الى هذه الاطراف لما اعتبرته موقفا مهادنا او ضعيفا في مواجهة هذا التوغل، وجزء كبير من هذا العتب والمرارة التي شعر بها الاكراد له مبرره اذ لا يمكن بأي حال ان تطغى الخلافات الداخلية مانعة بروز موقف وطني واحد تجاه امر يمس السلامة الاقليمية وأمن واستقرار مواطني الدولة، او ان تغلب الاصطراعات الداخلية على مواجهة خطر خارجي، مع عدم القبول بهذه المواقف التي بدت ضعيفة ولم ترتق الى مستوى الحدث الا ان ذلك لا يمنعنا من فهمها ولا اقول تفهمها. لكن قبل ذلك لا بد من تحديد اهداف هذا الدخول وفق وجهتي نظر الطرفين الاساسيين، فالأتراك يرون فيه انه تدخل محدود لن يتعدى مناطق وقواعد حزب العمال بغية تصفيتها والخروج بنصر مهم بإلقاء القبض على بعض قياداته الاساسية، في حين ترى القيادات الكردية أنه يستبطن اكثر من ذاك باستهدافه التأثير على مواقف الاكراد لتليينها في السياسات الداخلية، وتحديداً في قضية كركوك بل ويذهب ابعد لتقويض تجربة اقليم كردستان، الا ان كلتى وجهتي النظر متداخلة وفي كل منهما شيء من الاخرى، فتركيا وان استهدفت تنظيما تعتبره ارهابيا هدد ويهدد استقرارها الا انها لا تنفي امتعاضها من حلم الاكراد الذي ترى انه سيكون في النهاية محفزاً للنزعات الانفصالية عند اكرادها، وهي بهذا الدخول تريد ان تثبت سابقة بأنها لن تتردد في التلويح بالقوة او اللجوء اليها لكبح جماح ما تعتبره مهدداً للامن التركي حتى ولو كان ذلك يأتي بصيغة مطالب مبالغ بها ستوجد المقدمات الاساسية لانفصال مستقبلي، والحكومة العراقية لن تكون ايضا مبتئسة عندما تحجم مطالب الكرد تلك التي تعتبرها مبالغا بها خصوصاً انها تدرك انها لم تمتلك اي قدرة لتخفيض سقف هذه المطالب التي ترى انها ستقود في النهاية لخلق مركز ضعيف لا حول له في مقابل حالة هي ابعد من فيدرالية واقل من استقلال، فالحاكم في بغداد، وليس مخفياً، انه لا يمتلك سلطات لا فعلية ولا حتى اسمية على الاقليم بل وضعه يعيد الى الاذهان وضع خليفة بغداد مع امراء الولايات في حقبة الضعف عندما كان يوصف بأنه ليس له من الامر شيء سوى (الخطبة والسكة) اي ان يدعى له في صلاة الجمعة ويضرب اسمه على النقود، الا انه بعيداً عن هذه التفسيرات فان الحكومة العراقية التي لم يتجاوز فعلها الادانة وطلب سحب القوات كونها مقيدة بحدود امكاناتها المتواضعة التي تمنعها من الذهاب ابعد من ذلك، وهي ايضاً لا تريد ولا حتى تستطيع ان تقف بالضد مما وضح بأنه تفاهم وتنسيق امريكي ـ تركي على معالجة قضية حزب العمال. اما النقد الذي وجهه الكرد والمرارة التي شعروا بها تجاه الموقف الامريكي الداعم والمنسق مع الاتراك ففيه عدم استفادة من ماضي تجارب الكرد مع القوى الدولية والتي طالما خذلوا بها، الا انه مع ادراك ان العالم قد تغير الا ان مطالب وطموحات الكرد تظل فقط مقبولة ما دامت لا تضر بالمشروع الامريكي في المنطقة وستكون موضع التضحية عند التعارض، وان كان الكرد اليوم هم الحلفاء المرحليون للامريكان فلا شك ان تركيا هي الحليف الاستراتيجي لهم، اذ هي مع تأريخها كركن اساسي طيلة نصف قرن في الحرب الباردة فان دورها قد تجدد دولياً مع الصعود الروسي وإقليمياً مع الصعود المقلق لقوة ايران فهي الوحيدة الموازن لها والمعوّل عليها في الحد من نفوذها سواء في المنطقة او في الجمهوريات السوفيتية السابقة، فضلا عن ان تركيا تمثل نموذج نجاح يراد استمرار عوامل الاستقرار له كونها النموذج الاسلامي الناجح الآخذ بالمتبنيات الغربية من ديمقراطية واقتصاد سوق والمتعايش مع العلمانية والمزاوج بين مورثيه وهويته وقيم الغرب في منطقة باتت تموج بالأصوليات الناهضة.

الذي يبدو عليه ان التدخل التركي متوقع من كل الاطراف لذا فهي استعدت اليه بمواقفها، فهو كان واقعا لا محالة فمن غير المتصور ان يتم تجنبه بالتوصل الى تسوية سياسية للنزاع ما بين الاتراك والعمال الكردي، لذا فان الجميع يجد نفسه مضطرا للتعايش معه ما دام محدوداً زمنياً ومكانياً، فمن قبل اقليم كردستان فانه اذا لم يكن ممكن تجنبه فانه يفضل ان يظل محدوداً زمنياً وان لا يتسع جغرافياً بما يخلق نزوحاً وضحايا بشرية، او بما يضع سلطة الاقليم في حرج ففي الوقت الذي هي ترغب بالتخلص من مشكلة حزب العمال ومن وجوده كعامل استفزاز يستدرج التهديدات لمكاسب التجربة الا انها ايضاً ستهدد بخسران التعاطف الشعبي بعدم وقوفها مع اخوة اكراد يتعرضون للقتل، ايضاً الدول العربية جابهت التدخل بسكوت لافت وهذا يبدو انه يعود لكونها، اولا لا تعتبر النفوذ والتدخل التركي مهدداً مثل باقي النفوذات وتحديداً الايراني، وثانياً لا تجده خطيراً كونه ليس له تأثير مرجح على توازن المكونات العراقية، وثالثاً تجده مقبولا للحد مما تعتبره مبالغات في المطالب الكردية التي ستشكل بتصورها تهديداً لوحدة العراق يمتد بارتداداته عليها لاحقاً. لكن حتى اذا ذهبنا لفهم الاعتبارات الاقليمية والدولية رغم انه يظل لمبدأ التدخل خطورته كونه يؤسس لأخرى لاحقة، الا انه لا يمكن ان يفهم او يقبل ذلك على المستوى الداخلي، عندما تغلب الخلافات الداخلية وتمنع من تبلور موقف وطني واحد فجسد المواطنة العراقية ليس بحاجة الى أثلام أخر.