لماذا يتوسط «المصري» في لبنان؟

TT

ماذا يفعل عمرو موسى في بيروت. لماذا يتوسط «المصري» في لبنان. ليس هو أول مصري يتدخل، لكنه أول مصري «يتوسط». في تاريخنا الحديث كانت هناك مرحلتان: الأولى، أيام النحاس باشا، ساعدت فيها مصر لبنان على الاستقلال. في الثانية، خلال المرحلة الناصرية، تحول سفير مصر عبد الحميد غالب إلى مفوض سامٍ في بيروت، يدير السياسات والأجهزة والمخابرات.

لكن لكي نجيب على السؤال حقا يجب أن نعود إلى ما قبل ألفي عام. إلى المراحل التاريخية الأولى، لكي نحدد الفارق الأساسي بين مصر ولبنان. أو بين «المصري» واللبناني. لقد بنى المصري الأول دولة لها حدود ومؤسسات ونظام وطاعة. وبنى اللبناني بلدا صغيرا فقط لكي يبحر منه إلى بلدان الآخرين. اكتفى الفينيقي بصيدا وصور وراح يسافر ويهاجر ويتاجر في أصقاع الأرض. أقام دولة هزيلة على الساحل اللبناني ودولة عظيمة في قرطاج وحاول أحفاده الوصول إلى روما، لولا لعنة الثلوج التي طاردت هنيبعل كما طاردت نابليون وهتلر من بعد.

كانت صور وصيدا وجبيل وأرواد حوالي عام 1550 ق. م أكثر المرافئ ازدهارا لكنها موانئ هاجر منها اللبنانيون إلى الخارج. اكتشفوا البحر وتاهوا منه. المصريون اكتشفوا النيل وأقاموا حوله. خط اخضر طويل، طويل، فسيح مثل بحر صغير حلو عذب، يمخر الصحراء من ينابيع أفريقيا. تجمعوا حوله وصمدوا حوله وجعلوه سر الدولة وسر الوحدة وسر الانسجام وسر الأهرام وسر فرعون وسر أسرار الدولة التي يهزمها الفرس ثم تقوم، ويحكمها الاسكندر ثم تزدهر، ويأتيها نابليون فيترك خلفه أعظم اكتشافات أثرية في تاريخها لكنه يمضي ويأتي البريطانيون. فماذا فعل البريطانيون؟

لقد قسموا في كل مكان آخر كل شيء وفرقوا في كل مكان آخر بين الجميع. وهنا، في مصر، وجدوا بلدا واحدا ودولة واحدة وشعبا واحدا، غارقا في الترع وفي بحر من الولادات، لكنه غارق في حب مصر.

الصيف الماضي كنت في ايبيزا، محاولا أن أبقى بعيدا عن لبنان. ولكن زميلا إسبانيا قال لي، يجب أن تقوم بجولة على الآثار الفينيقية هنا. لقد وصل أصحابكم إلى جميع جزر البليار. بالإضافة طبعا إلى قادش. وإلى بعض نواحي إسبانيا الأخرى. لكنهم تناسوا شيئا بسيطا. أن يبنوا دولة قوية في أرضهم. المصريون فعلوا العكس تماما. بنوا أجمل تاريخ اثري في التاريخ، داخل مصر. نقلوا النيل نقطة نقطة ونخلة نخلة إلى الصحراء. وأقاموا دولتهم، في ظل كليوباترة أو حتشبسوت أو أجمل نساء المنحوتات، عزيزتنا نفرتيتي. لذلك، بعد 3 آلاف عام، يحاول المصري أن يقنع اللبناني بأن يبني دولة فوق أرضه لا مهجرا في مراسيه. عبثا، يحاول. تحية في أي حال، يا دكتور عمرو.