كيف يستقيم المعنى مع الحدث؟

TT

كيف يستقيم المعنى بأن المدمِّرة الأمريكية «يو.إس.إس كول» قادمة إلى الشواطئ اللبنانية من أجل دعم الاستقرار في المنطقة؟ ولكن المعنى يستقيم حين يقال ان المدمِّرة قادمة من أجل إلحاق الدمار بالمنطقة، فهذا كل ما فعله من قرر إرسالها طوال هذا القرن الدموي. كما أن المعنى لم يستقم، حين رفدت الولايات المتحدة إسرائيل بملايين القنابل العنقودية، قبيل نهاية الحرب على لبنان، «حرصاً على إحلال السلام»، فزرعت إسرائيل هذه القنابل لتسبب كل يوم الموت لأطفال ورجال ونساء جنوب لبنان من دون أن يحل السلام أبداً، ولم يحدث سابقاً أن حل السلام بالمدمِّرات، والقنابل العنقودية، والمجازر الدموية. كما أن المعنى لا يستقيم حين أرسلت ألمانيا غواصات نووية إلى إسرائيل عشية الحرب الأخيرة التي شنتها على شعب لبنان. كما أن المعنى لا يستقيم حين ترسل الولايات المتحدة مدمِّرة حربية في الوقت الذي تذبح فيه إسرائيل، على مرأى العالم المتحضر، أطفال فلسطين، وحتى الرضع لم يسلموا من محرقتها، بينما تستخدم الولايات المتحدة كل سطوتها في مجلس الأمن، كي تمنع حتى توجيه اللوم إلى إسرائيل. ولكن المعنى يستقيم، حين نقرأ تصريحات جلادي الشعب الفلسطيني، اولمرت، وباراك، وتسيبي ليفني، ونائب وزير الحرب الإسرائيلي متان فلنائي، بأنهم سوف يشنون محرقة كبرى على الفلسطينيين، وأن الفلسطينيين سوف يدفعون ثمناً باهظاً في المستقبل القريب. والسؤال هو «ثمن باهظ» لماذا؟ لإطلاق الصواريخ، كما يدعون؟ لقد ارتكبت إسرائيل في القرنين الماضي والحالي أبشع المجازر بحق الشعب الفلسطيني، قبل اختراع الصواريخ وبعدها، هل كانت هناك صواريخ عندما ارتكبوا مجازر دير ياسين، وقبية، وصبرا وشاتيلا، وجنين، وعندما يقصفون الأطفال في مدارسهم وهم يدرسون، وفي فرشهم بمنازلهم وهم نائمون؟ الحقيقة اليوم، هي أن هذا الحشد العدواني للقوة العسكرية الإسرائيلية، والأمريكية يهدف إلى الاستمرار بمخطط إبادة الشعب الفلسطيني إبادة جماعية، وذلك للاستيلاء على أرضه، ومياهه، وتاريخه. وفي الوقت الذي ترتكب إسرائيل أبشع أنواع المجازر بحق الشعب الفلسطيني، الذي يعاني صنوف الحرمان والتعذيب والتنكيل منذ عشرات السنين تحت احتلالها العسكري البغيض، فإنها ترتكب جريمة تهويد القدس، وفتح كنيس في المسجد الأقصى، وتهجير الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين، على حد سواء، من القدس، في محاولة لإجهاض حقوقهم التاريخية فيها. وتقوم إسرائيل بكل ذلك معتمدة على الضعف المستشري في أوصال الكيان العربي، وإغراقه بتفصيلات هامشية، لن يتذكرها أحد في المستقبل، كما أن أحداً لا يتذكر اليوم العوامل، التي آلت بالمسلمين إلى وضع حرقت فيه بيوتهم، ومساجدهم، ومكتباتهم، وُقتلوا و ُشرّدوا من الديار، وعانوا من القتل، ومحاكم التفتيش لأن قادتهم عجزوا عن إيجاد الحلول لاختلافاتهم، بل كانوا يمعنون، والعدو على الأبواب، في إغراق الأمة بالخلافات، وبحياكة المؤامرات، بما فيها التواطؤ مع العدو، لإضعاف بعضهم البعض، فانتهوا جميعاً نهاية غير محمودة العواقب.

كما كان شأن الاستعمار في القرن التاسع عشر، فإن استعمار القرن الواحد والعشرين، لا يختلف عنه بشيء سوى إضافة الطائرات إلى المدمرات، وباستخدام آلة إعلامية تحاول ذر الرماد في العيون، عبر الحديث عن قيم وأخلاق وأهداف إنسانية، ولكن أيضاً بربط بعض العرب مصير أمتهم بهذه الآلة العسكرية الهوجاء، القادمة لإخضاع العرب للمصالح الإسرائيلية، مبرّرين ذلك بأشكال مختلفة، ومبرزين أسباباً تلبسُ لبوسَ الوطنية، والمصلحة العامة، ولكنّها في واقع الأمر تدمّر الأوطان والشعوب. والسؤال بعد كل الأسلحة التي تمتلكها إسرائيل في المنطقة، وبعد كل المجازر والجرائم التي ترتكبها يومياً بحقّ شعب فلسطين، الذي ظلّ عشرات السنين ينتظر عدالة الغرب وحمية العرب، هو: لماذا يشعر طغاة الديمقراطية الأمريكية بالحاجة لاستقدام المدمِّرات والأساطيل الحربية؟ وما هي حاجتهم للمزيد من تقنيات القتل والدمار، مما لا يمكن لهم نقله بالطائرات؟ لعلمي، ليس هناك في المنطقة من هو مستعد لتهديد المصالح العربية بجيوشه وأساطيله وطائراته! إن كل هذا الحشد، وكل هذه المجازر الإسرائيلية اليومية، تشير إلى الاحتدام بين الحرب الصليبية، التي أعلن عنها بوش منذ سنوات، وبين التوق العربي للحرية والكرامة، الذي يبدو أنه يأخذ هذه المرة أيضاً أشكال اعتداءات عسكرية جديدة تقوم بها كعادتها منذ قرنين القوى الغربية ضد المصالح والحقوق العربية، وقد تفعل ذلك خلال أيام أو أسابيع، ولكنّهم لو تأملوا أين ستأخذ العالم مثل هذه الجرائم، التي ترتكبها القوى الغربية ضد الشعب العربي، منذ تأسيس إسرائيل وحتى اليوم. فماذا يمكن أن يفعلوا أكثر من قتل الأطفال وهم رضّع، وقتل الأولاد وهم يلعبون كرة القدم (انظر جريدة الاندبيندينت البريطانية 29 شباط 2008)، وحرق قلوب الآباء الذين يستصرخون العالم «دخيلكم أولادي»، والأم الفلسطينية المفجوعة، التي تخاطب ضمير العالم «المتحضّر»، والعالمين العربي، والإسلامي، وكذلك «الديمقراطي» جداً على حد سواء: «أو لا ترون كيف نُذبح، ماذا نفعل، لماذا تقبلون بهذا»، وبعد، كل هذا الألم الذي يذيب الجبال حوّل الفلسطينيون الأبطال الجدار العنصري إلى لوحة لمعاناتهم، حيث يعبّر الشعب الواقع تحت الاحتلال البغيض عن غضبه ومعاناته للعالم. وماذا سيفعل طغاة الديمقراطية الأمريكية أكثر من دعم وتمويل، وتسليح نظام الاستيطان الإسرائيلي للقيام بسجن جماعي لمليون ونصف مليون فلسطيني في غزة، ومثلهم في بقية فلسطين. ومع ذلك امتدت سلسلة بشرية من الأطفال، والنساء، والرجال، من رفح إلى بيت حانون ضدّ سلاسل الاحتلال. ورغم كلّ الغطاء الديمقراطي الأمريكي لجرائم إسرائيل، أصدرت محكمة الضمير في بروكسل بعد جلسات امتدت أيام 22 و23 و24 من شباط حكمها بـ«إدانة إسرائيل بجريمة الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة خلال عدوانها على لبنان في حرب تموز 2006»، وتعهدت أحزاب ووفود دولية وبرلمانيون بتنفيذ الحكم. كما دعت الوفود في بروكسل إلى مقاطعة كل الشركات التي تتعاون مع إسرائيل في تدمير منازل الفلسطينيين، أو بناء مستوطنات على أنقاض القرى والأحياء الفلسطينية.

إن العرب مقبلون على أيام صعبة تحاول الولايات المتحدة ان تحسمها بطريقتها الدموية المعهودة من خلال القوة العسكرية الغاشمة بتقديم المزيد من الدعم لإسرائيل، بهدف تحطيم الكيان العربي كله من دون استثناء. فالصراع قائم اليوم بين العرب الذين يكافحون من أجل حقهم في الحرية والكرامة، وبين من يحاول قهرهم بالحديد والنار الهمجية، بهدف احتلال أرضهم وإذلالهم ونهب ثرواتهم.

ولكن الإعلام الذي يحاولون استخدامه لإخفاء الحقائق وتشويهها يوصل بعضاً من واقع الأمور إلى كل أفراد الأسرة الإنسانية في كل مكان. وهي كفيلة بإعادة الثقة، بأن الحضارة البشرية لن تكون إلا لصالح الكرامة والعدالة. مهما كانت الأحداث في الأيام والأسابيع والأشهر القادمة، فإن التهديد الذي يمثله قدوم المدمِّرة الأمريكية، سيقنع من لم يقتنع بعد، بضرورة التضامن العربي، وبواجب الوقوف مع الشقيق ضد قوى البغي والعدوان والاستيطان، والعنصرية.

www.bouthainashaaban.com