جنون وفنون

TT

يقطع الرسام العبقري فان جوخ أذنه ندما على شجار مع صديق، ثم يضعها في منديل ليقدمها إلى حبيبته برهانا على صدق حبه لأنها طلبت أذنه ذات مرة وهي تداعبه، ويتورط الكاتب المسرحي النرويجي هنريك أبسن في عشق ذاته حتى أنه كان يضع مرآة في قبعته ليتأمل وجهه من حين لآخر، ويعترف الكاتب العبقري تشارلز ديكنز بأن ثلاثة أرباعه جنون، والربع الباقي هذيان، ومثله الروائي جيمس جويس الأب الروحي للرواية السيكولوجية، والذي يلقبه النقاد بالمحبرة المسكونة، كما يقع الروائي بلزاك تحت تأثير فكرة التشاؤم والتفاؤل بصورة مرضية، بينما عاش الفيلسوف جان جاك روسو أسير نزعة الشك في كل من حوله!

ولبعض علماء النفس التحليلي وجهة نظرهم في تفسير بعض هذه السلوكيات التي ارتبطت بالمبدعين، فهم ينظرون إلى الإبداع على أنه تعويض تصيدي عن رغبات غريزية أساسية ظلت بلا ارتواء، وهم يرون أن الإبداع يمكن أن يحرر الفنان من بعض حالات العصاب التي يعيشها، ويرفض عالم النفس العربي الكبير الدكتور سامي الدروبي ما تذهب إليه مدرسة التحليل النفسي، ويخلص إلى القول «بأن التحليل النفسي إذ يحاول أن يرد العبقرية المبدعة إلى الغرائز الجنسية المكبوتة يقرر قضية لا يستطيع البرهان عليها، فالتعلق بالقيمة الفنية لا يمكن أن يرجع إلى التعويض عن حرمان»، مشيرا إلى أن هناك مبدعين يعيشون حياة سوية ولا يعوضون بالإبداع عن أي حرمان. هذا التباين بين وجهات النظر النفسية يقودنا إلى القول بأن شخصية المبدع لم تزل لغزا يستعصى ويتمرد على تفسيرات العلم، ولم يزل جوهر العبقرية المبدعة يلفه الغموض لتظل شخصية المبدع حرة طليقة، تحلق مغردة في ذرى الإبداع ساخرة من كل فخاخ العلم الباردة التي انتصبت لاصطيادها..

ولصديقي نصف العاقل، ونصف المجنون، المتوهم بالإبداع، ويخشى أن يتورط كفان جوخ في قطع أذنه، أو أن ينهي حياته كما أنهاها الأديب الياباني «ياسوناري كاواباتا» حينما انتحر بطريقة «الهاراكيري» الشهيرة، أو كما فعل «همنجواي» الذي أنهي حياته بطلقة من مسدسه.. لصديقي ذلك أقول: لا بأس عليك يا صديقي، فما تظنه إبداعا لا يتجاوز أن يكون أضغاث جنون.. دمت سالما.

[email protected]