أيام في كردستان

TT

خلال مطالعتي للمذكرات الفنية التي نشرتها دار الحكمة في لندن للدكتور الفنان خالد القصاب، لفت نظري ذلك الفصل الجميل الذي كتبه عن زيارة جماعة الرواد لكردستان في 1947. شملت الزمرة استاذي فايق حسن، ابا الفن العراقي الحديث، ونوري مصطفى ويوسف عبد القادر وسواهم. استأجروا سيارة يسوقها سائق مسيحي كان يسرع الى رسم الصليب على صدره كلما اقترب من ممر في اعلى الجبال. تمخضت السفرة عن كثير من اللوحات التي انجزها اولئك الرسامون عن كردستان واهلها. املي الكبير انها مازالت في الوجود ولم ينهبها الناهبون. ولكن مشاهداتهم لم تتوقف في رسومهم فقط. فهذه المذكرات تعطي وصفا بديعا لجبال المنطقة وسكانها لا يخرج الا من قلم فنان. تراه يصف جبل هندرين بشكله الهرمي ولونه البنفسجي تحيط به هالة وردية تلاحق مغيب الشمس خلف الجبال، وهلمجرا. ينتقل الى حاج عمران فيقول: «تمكنا من رؤية فندق حاج عمران، قابعا امامنا في وسط الوادي وقد بدا بحجم علبة كبريت، تحيط به الجبال الشاهقة والغابات الخضر. منظر مذهل. لا اذكر انني شاهدت مثله في سويسرا والنمسا».

قادتهم رحلاتهم الى مناطق الكوجر فلقوا منهم اكرم الترحيب. فرشوا لهم الدواشك والمخدات والمزركشة. «تبادلنا معهم الحديث بالكردية التي لم نكن نعرف منها غير القليل. واعجبتنا بساطتهم واستقامتهم وصدقهم وكل ما عرف عن الاكراد من اخلاق فاضلة».

فجأة يسمع الدكتور واحدا يناديه: «دكتور خالد! دكتور خالد!» استغرب من سماع اسمه ينطلق من فلاح كردي في هذه المناطق النائية. تقدم اليه الرجل ليقبله بحرارة نادرة. «ما تتذكرني دكتور!؟ نسيتني؟» تبين انه كان احد مرضاه وأجرى له عملية انقذت حياته. هرع الرجل الى بيته وجاء بصحن مزخرف من خزفيات كردستان الجميلة. وأصر عليه ان يتقبله هدية منه. عراقنا عراق واحد. ما اصغره على الخارطة وما اكبره في القلب.

ما ان وصل الركب راوندوز حتى كان خبرهم قد وصل القائمقام فخف لاستضافتهم في بيته. وعندما استفاقوا صباحا، وجدوا في انتظارهم مائدة طويلة عامرة بأطايب اطعمة كردستان من عسل ولبن مدخن وجبن اوشاري وخبز حار طازة واستكانات شاي سنكين وانواع المربى المحلية. كان القائمقام قد اضطر للرحيل لمهمة رسمية. فعز على ضيوفه الا يتركوا له شيئا من مائدة هذا الافطار اللذيذ. «قررنا ان لا نقضي عليها كلها وان نترك شيئا من باب الادب. لكننا اكلنا بشهية فلم يبق على المائدة الا قطعة يتيمة من مربى التفاح بلونها النبيذي اللامع. قررنا ان نتركها حفظا لكرامتنا. وإذا بنوري يحدق فيها فتنهار ارادته وينقض عليها كالصقر». يمضي خالد القصاب فيختم الفصل قائلا: «تركت رحلاتنا للشمال في نفوسنا اثرا عميقا لا ينسى، وإعجابا بجمال السهول والجبال، وحبا كبيرا للأكراد الطيبين».

و كانت ايام حلوة من ايام الخير في كردستان العراق.