بيقولوا «مدمر» بلدي..

TT

طبول الحرب تقرع في لبنان، وصيحات قادته تدوي مرحبة برائحة الدم والبارود والنيران. لقد اشتاق اللبنانيون وزعماؤهم للويلات. فهم لم يتعظوا من حرب 1958 ولا من كارثة 1975 اللتين استمرتا لأكثر من عشرين عاما، واشتاقوا لتلك الويلات وحنوا لتلك الكوابيس.

ها هو لبنان يسحب عنوة وقسرا باتجاه حرب جديدة، فكيف لا، وهناك رؤوس قد أينع قطافها، ووطن قد آن اقتلاعه وحرية قد آن وضع حد لها، وحلم قد آن أن ينتهي، وتعايش بات من المطلوب أن يوقف عند حده.

الحلم اللبناني الذي لم يبدأ انتهى، وكان اللبنانيون يتغنون ويتفاخرون بأهمية وضرورة أن يكون لك «مربط عنزة بلبنان». والآن يرددون وبكل حزن «دخيلك خللي هالمربط بره لبنان». لبنان يحتضر بإرادة ورضا زعمائه ومن يتبعونهم. قد تكون انتهت الحلول الوسطى ولم يعد للعقل والضمير مكان، وربما لم يعد للبنان مكان في القلب ولا حيز للوجدان، كل الاحتمالات واردة وكل الخيارات القائمة ممكنة.

العد التنازلي للمواجهة التي روج لها «مسعرو» الحرب أزفت، وليفرح كل من كان يتغنى بأهمية نجاح العملية بكل ثمن حتى لو مات المريض. إن منطق الحرب والدمار، وهي حالة مؤسفة، تجد من يستفيد منه بكل سهولة. لقد نجحوا في القضاء على لبنان الذي كان، فالتعايش ذهب والحرية اختفت، والتوافق انتهى والتقسيم تحول من كلمة محرمة وكريهة الى واقع «يحس» به الجميع دونما استثناء. كثرت الادعاءات وكثرت الحجج للبقاء على هذا الوضع، ولكن الحقيقة واضحة ولا غبار عليها، وهي أن لبنان كله يهون، ويهون لأجل سواد أو زراق أو خضار أعين كل واحد من زعمائه الموتورين برياح الحرب المدمرة والتي لن تبقي ولن تذر.

لم يخطئ أبدا جبران حينما كتب بكل صدق وأمانة عن لبنانه هذا، ولبنان الآخرين والرؤية مختلفة تماما بينهما. فالأولى كانت رؤية جمالية ورؤية حضارية ورؤية مثالية، لما يجب أن يكون عليه لبنان، والثانية رؤية لا مجال للخير فيها، لا مجال للأمل فيها ولا مجال للحلم فيها. اليوم يعيش الجميع آخر أيام لبنان القديم، إنها بالفعل «آخر أيام الصيفية» قبل أن تحل عليها «ليالي الشمال الحزينة». وإذا كانوا يقولون يوما أن لبنان «ها صغير بلدي» لأنه «بالغضب مسور بلدي» سيظل لبنان ذكرى جميلة لما كان يجب أن يكون وكان ممكنا أن يكون، ولكن لن يفيق اللبنانيون من عذاب وجلد الذات والاستمتاع به، والذي يمارس منذ زمن ليس بالقليل، لن يفيقوا من كل ذلك إلا بعد فوات الأوان، بعد رحيل جيل كامل من أبنائه حاملي الوعد والأمل، وبعد زوال فرص السلام ووعود الغد.

فليهنأ اللبنانيون بما صنعوا للبنانهم، وليسعد كل من انقاد وراء طموح الكرسي وهاجس الزعامة وسكرات النصر الموهومة، وليشربوا وليتجرعوا كلهم كأس الخيبة. انسوا لبنان ودعوه يهنأ بما يقدمه زعماؤه، انسوا لبنان ودعوه يرى نتاج أفكار قادته، استمتعوا به وهم «يدبكون» دبكة الموت ويزعقون بصوت أجش عند أنغام «راجع.. راجع.. يتدمر.. راجع لبنان.. راجع.. راجع.. أبشع مما كان!