لكي نحول المذبحة من كارثة إلى فرصة

TT

كيف نحول الأزمة إلى فرصة؟ هذا السؤال من وحي الحكمة الصينية التي تعتبر أن كلمة الأزمة مسكونة بمعنيين، هما الكارثة والفرصة، فإذا انحزت إلى الأولى فسوف تستسلم للإحباط واليأس وتزداد انهزاماً وانكسارا. أما إذا فتحت عينيك جيداً وتعلمت الدرس من الأزمة، فستدرك أنك بصدد فرصة لتصويب أخطائك وتعزيز قدرتك على النهوض والاستمرار. ونحن أحوج ما نكون لاستلهام هذه الحكمة في مواجهة المحرقة التي توعدت بها إسرائيل الفلسطينيين، وباسمها نصبت لهم المذبحة التي أبادت أكثر من مائة فلسطيني في أربعة أيام.

إذا انطلقنا من هذه الرؤية، وحاولنا أن نستخلص الدروس من تجليات المحرقة الماثلة تحت أعيننا، فسوف تتبدى لنا الحقائق والمعالم التالية:

* إن الذي رأيناه في أحداث غزة يعيد إلى أذهاننا صورة إسرائيل الحقيقية، بوجهها الوحشي والقبيح، الذي أخفته خلال السنوات الأخيرة وراء أقنعة السلام ومفاوضاته، وهو ما خدع البعض منا حتى تصوروا أن الذئب صار حملاً وديعاً، لكنه ما لبث أن خلع القناع حين أدرك أن بين الفلسطينيين من يرفض الاستسلام له والسير في ركابه.

* إن إسرائيل غير مستعدة للتفاهم، ولا هي قابلة لأن تلتقي مع الفلسطينيين والعرب في منتصف الطريق. فإما الخضوع والركوع، وإما التصفية والإبادة. هي غير مستعدة للقبول بهدنة متبادلة توقف العدوان والاجتياح للأراضي الفلسطينية من ناحية، وفي المقابل وقف قصف الصواريخ الفلسطينية لمستوطناتها. لأن في التبادل معنى الندية والمسؤولية المشتركة. وهي صيغة لا تريدها ولا تقبل بها، لأنها تصر على أن تكون لها اليد العليا والكلمة الفصل. من ثمَّ فالمطلوب إسرائيلياً من الفلسطينيين أن يلتزموا من جانبهم بالهدنة والتهدئة، في حين تستمر هي في تصفياتها واجتياحاتها.

* إن مشكلة إسرائيل ليست مع الصواريخ التي تنطلق من غزة، ولا هي مع حماس، ولكنها مع المقاومة أساساً. وما فعلته مع غزة ليس جديداً في سجلها. ولكنه استنساخ لممارساتها التي دأبت عليها منذ عام 48. وأي متابع للشأن الفلسطيني يعلم جيداً أن إسرائيل اقترفت أكثر من 35 مذبحة كبيرة، وأقدمت على أكثر من 100 حادثة قتل جماعي، ولم تتوان عن ارتكاب كل ما يخطر من فظاعات ووحشية من الاغتصاب إلى تسميم الآبار وإحراق المزروعات. لقد حُوصر عرفات وقُتل مسموماً لأن انحناءه لم يكن كافياً، ولأن تنازلاته لم تستمر إلى النهاية، وكانت خطيئته في نظرهم أنه قال لا حينما طلب منه أن يتنازل عما لا يستطيع أي قائد فلسطيني أن يتنازل عنه وحُوصرت غزة حين رفضت الخضوع والاستسلام وسوف يواجه أي فصيل فلسطيني المصير ذاته طالما ظل متمسكاً بالثوابت الفلسطينية وقابضاً على جمر الحلم الذي يراد له أن يجهض. لم تنطلق من الضفة أية صواريخ ومع ذلك تعرضت للعدوان في الأسبوع الماضي وقُتل اثنان من شبابها في مخيم قباطية قرب نابلس لأن لهما بالمقاومة صلة.

* إن المفاوضات مع إسرائيل التي يجريها أبو مازن، ليست سوى محاولة للاستدراج والتخدير وكسب الوقت لاستكمال مخططات تغيير الوقائع على الأرض. وقد أثبتت التجربة أنها لم تكن سوى «جزرة» وهمية لوَّح بها الإسرائيليون لقيادة السلطة، في حين احتفظوا بالعصا جاهزة وراء ظهورهم. وهي لم تحقق شيئاً حتى الآن، فالحواجز في الضفة ما زالت كما هي، والأسرى لم يطلق منهم أحد، والاعتقالات والملاحقات مستمرة بين النشطاء الفلسطينيين، والتوسعات الاستيطانية لم تتوقف. ولم يلمس أحد أنها حققت شيئاً حتى الآن، لا في القضايا الصغيرة، ناهيك من قضايا الحل النهائي. وكل ما قيل عن إقامة الدولة قبل نهاية العام الحالي رغم هشاشة الفكرة وعبثيتها، لا شيء يوحي بجديته ولا أمل في الأفق يدل على إمكانية تحقيقه.

* إن المراهنة على الدور الأمريكي للتوصل إلى حل عادل يستجيب للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية هي أكذوبة كبرى. وفي جوهرها فإنها تسليم مفاتيح القضية لطرف منحاز تماماً، ويقف في الطرف المعاكس ـ مع الخصم والعدو ـ على طول الخط. صحيح أن الدور الأمريكي لا يمكن تجاهله. ولكن التعويل عليه بالكامل يظل خطاً أحمر يسوقنا إلى الكمين الإسرائيلي الذي لا يريد لنا في نهاية المطاف سوى الاستسلام والاستجابة للأطماع والطموحات التي تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية.

* إن الانقسام الفلسطيني وفر ظرفاً مواتياً لاستفراد إسرائيل بالقطاع، وهي مطمئنة إلى أن قيادة السلطة في رام الله جرى تحييدها. بحيث لم تعد تمانع في توجيه الغارات والقيام بالمذبحة التي تصورت أنها يمكن أن تؤدي إلى إسقاط حماس، في حين أرادت إسرائيل بالمحرقة أن تضرب «عصفورين» بحجر واحد، فمن ناحية تحقق لقيادة السلطة مرادها، وفي الوقت ذاته تنجز هدفها الأهم والأكبر المتمثل في الإجهاز على المقاومة وتركيع القطاع.

* إن أبو مازن في خصومته لجماعة حماس نسي فيما يبدو قضية فلسطين برمتها، حتى أصبح تحرير القطاع من سلطة حماس مقدماً منه على تحرير فلسطين. فوجدناه مقبلاً على التفاوض مع الإسرائيليين رغم أن مفاوضيه من مجرمي الحرب وقتلة الفلسطينيين، ومعرضاً عن الالتقاء أو الحديث مع أشقائه الفلسطينيين في غزة. أكثر من ذلك فقد شاءت المقادير أن يروج أبو مازن في تصريحات صحفية معلنة لشائعة تسلل عناصر «القاعدة» إلى القطاع، وبعد 24 ساعة من كلامه شنت إسرائيل غارات على غزة وشرعت في تنفيذ المذبحة. وهو ما أعطى انطباعاً بأن كلام الرئيس الفلسطيني وفر غطاء للمذبحة الإسرائيلية، لأنه إذا صح أن «القاعدة» وصلت إلى القطاع وأصبحت في حماية حماس، فإن إسرائيل تصبح أمام العالم الخارجي معذورة في غاراتها، لأنها بذلك تشارك في الحرب ضد الإرهاب وتقوم بواجبها لكسب تلك الحرب في فلسطين.

* إن الصمت الدولي وعجز مجلس الأمن عن إصدار قرار نزيه بخصوص ما جرى يثيران نقطتين مهمتين، الأولى أن العالم العربي أصبح بلا أصدقاء في الساحة الدولية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي فإن الخلل في النظام الدولي أضر كثيراً بقضايا الأمة العربية التي أصبحت بلا نصير. ثم أننا لم نشهد جهداً كافياً لتعويض غياب الاتحاد السوفيتي سواء بمحاولة كسب روسيا أو كسب غيرها من الدول الآسيوية المؤثرة مثل الهند والصين، والبَلدان يتعاونان الآن عسكرياً مع إسرائيل على نطاق واسع. وما حدث مع الدول الآسيوية تكرر مع دول أوروبا التي أدار العرب ظهورهم لها واكتفوا بالمراهنة على الدولار الأمريكي الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه. الأمر الثاني أن غياب أي رد فعل عربي يذكر إزاء المذبحة، كان مشجعاً للمجتمع الدولي لكي ينحرف عن الموضوع ويقلل من شأن ما جرى لأننا لا ينبغي أن نتوقع منه أن يكون عربياً أكثر من العرب. حتى القمة العربية التي كان يفترض أن يكون هذا الموضوع على رأس جدول أعمالها، تبدو الآن متعثرة بعدما فرض الملف اللبناني نفسه على القمة، وربطت بعض الدول بين انتخاب رئيس لبنان وعقد القمة، بحيث أصبح تأجيل اختيار الرئيس اللبناني ذريعة لتأجيل القمة العربية المرتقبة. ما العمل إذن؟

إذا اعتبرنا أن التشخيص السليم لأي مشكلة هو نصف الطريق إلى حلها فقد بات واضحاً لكل ذي عينين أن الهدف من كل ذلك هو القضاء على المقاومة وأن ذلك ليس هدفاً إسرائيلياً فحسب، وإنما هو هدف أمريكي أيضاً. وإرسال البارجة الأمريكية إلى سواحل لبنان محمل برسالة صريحة في هذا الصدد. في التشخيص أيضاً ينبغي أن يكون واضحاً أيضاً أن المطلوب في نهاية المطاف هو تركيع الفلسطينيين والأمة العربية كلها. والقضاء على مقومات الممانعة والصمود فيها. وإذا كان الأمر كذلك فإننا نصبح مخيرين بين أمرين لا ثالث لهما: هما الاستسلام أو الثبات واستمرار الممانعة ومقاومة التركيع والاستتباع وكما نقول فالأول هو طريق الندامة بامتياز، أما الثاني فهو طريق السلامة. من ثمَّ فإذا افترضنا أن الاستسلام مرفوض من جانب أغلبنا على الأقل ـ فلم يبق أمامنا سوى خيار الصمود والممانعة والمقاومة ـ أما كيف نمارس ذلك على الأرض، فهذا أمر آخر يطول فيه الحديث وتتعدد الاجتهادات. والمهم في اللحظة الراهنة أن نتوافق على المبدأ، قبل أن نخوض في التفاصيل.