خواطر حول عملية اغتيال عماد مغنية؟!

TT

في العرف الدولي فإن كلمة الاغتيال ASSASSINATION والقائمين بالاغتيال ASSASSINS كلها جاءت من طائفة «الحشاشين» التي انتشرت في منطقة الشرق الأوسط وخاصة المشرق العربي خلال بداية الألفية الثانية عندما وجد جماعة من المتعصبين أنه لا بد من اغتيال الحكام ممن اعتبروهم من الخونة والمتهاونين. ولما كانت عملية الاغتيال تتضمن جانبا انتحاريا للهجوم على ذوي البأس والقوة فقد كان لا بد من تحضير القائم بالاغتيال لعدم التراجع عن المهمة من خلال تناول بعض «الحشيش» الضروري لقوة العزيمة كما كان الاعتقاد غالبا في هذا الزمان. ولكن هذا العرف الدولي ليس صحيحا بالضرورة، فربما كانت عملية الاغتيال قديمة قدم الإنسانية، وكان اغتيال قابيل لأخيه هابيل أول العمليات التي سجلتها لنا الكتب المقدسة. وبعد ذلك كانت عمليات الاغتيال سائدة في كل الممالك المعروفة، وفيما بينها، وربما لم تسلم أمة من الأمم من عمليات للخلاص من المنافسين أو من هم في سدة الحكم، ومن بين الخلفاء الراشدين وفيما عدا الخليفة الرشيد أبو بكر الصديق فإن ثلاثة ـ عمر وعثمان وعلي ـ قتلوا اغتيالا بالسم أو بالسيف. وربما كانت مؤامرة اغتيال الخليفة علي بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ من المؤامرات التي تحكى في التاريخ لأن ثلاثة من الخوارج يقودهم عبد الرحمن بن ملجم عقدوا العزم على اغتيال ثلاثة من قادة المسلمين هم علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، باعتبارهم سببا للشقاق والخلاف بين المسلمين. ولم تنجح الخطة إلا في قتل القائد الأول الذي كان قتله بداية لمجموعة من الكوارث الإنسانية لآل البيت الكريم، وسببا في واحدة من أهم محركات التاريخ الإسلامي عندما انشق المسلمون إلى جماعة الشيعة الذين تشيعوا للإمام علي ابن أبي طالب وجماعة السنة التي وقفت إلى جانب «الدولة» و«الجماعة» ومن يقف على رأسها. وما كان خلافا سياسيا نقيا في لحظة الاغتيال ما لبث أن أصبح مدارس فقهية وصراعات استراتيجية فيما أتى من أزمان.

والاغتيال في العموم هو أحد الأساليب السياسية التي تعمل على تغيير موقف استراتيجي صعب من خلال عملية عنيفة صغيرة تعمل على تحقيق أهداف كبيرة. وهي بهذا المعنى عملية ذات تكلفة صغيرة ـ فرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد ـ تحقق عائدا كبيرا من خلال عملية محدودة للتخلص من شخص بعينه له أهمية مركزية في الصراع السياسي. ومشكلة الاغتيال دائما أنه يعلي بشكل كبير دور الفرد سواء كان القاتل أو المقتول في التاريخ، كما أن لها في كثير من الأحوال نتائج لم تنعقد النية عليها أو حتى أمكن تصورها ساعة الحدث نفسه. وعندما قام خالد الاسلامبولي باغتيال الرئيس الراحل انور السادات عام 1981 فإنه لم يوقف عملية السلام المصرية ـ الإسرائيلية ولكنه وضع أول بذور السلام البارد والعلاقات المترددة بين مصر وإسرائيل وأضاف صعوبة جديدة لكل من أرادوا السلام بعد ذلك. والأخطر أن عملية القتل كانت المقدمة الطبيعية لعمليات إرهابية، واغتيالات سياسية، أصبحت جزءا هاما من تاريخ المنطقة بعد ذلك. وعندما قامت إسرائيل باغتيال «المهندس» يحيى عياش عام 1996 كانت بذلك تضع بداية النهاية لعملية السلام بعد أن ولدت عمليتها عددا هائلا من المهندسين القادرين على نقل المعركة إلى قلب إسرائيل. وعندما قامت إسرائيل مؤخرا باغتيال عماد مغنية فإنها لا بد قد بدأت عملية جديدة سوف تكتب بالدماء تاريخ الشرق الأوسط لسنوات مقبلة. ولكن الاغتيالات تكون أحيانا وسيلة لتعقيد مواقف إستراتيجية معقدة بما فيه الكفاية. وعندما قام الإسرائيليون باغتيال رئيس وزرائهم اسحق رابين فإنهم لم ينجحوا في وقف عملية السلام المعروفة في ذلك الوقت بعملية أوسلو؛ ولكن الاغتيال كان شهادة للسياسيين الإسرائيليين على المدى القصير الذي يستطيعون الذهاب إليه في عملية السلام التي لا تتحمل لنجاحها بأقل من السير إلى مسافات بعيدة. وبطريقة ما فإن عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري قد عقدت المسرح السياسي اللبناني وعلاقاته مع سوريا وإسرائيل بأكثر مما كانت معقدة من قبل خاصة بعد أن أحضرت كل القوى الدولية والإقليمية إلى داخل لبنان. وإذا كان الاغتيال قد فتح الأبواب لخروج السوريين من بيروت، فإن الساحة اللبنانية فتحت على مصراعيها لكي تعطي فضاء سياسيا كبيرا لحزب الله، ولزعامة حسن نصر الله شخصيا، جعلته قادرا على شن الحروب وتقييد الساحة الداخلية اللبنانية وتعبئة الساحة الإقليمية بانتصارات حقيقية ومزعومة. ولكن الاغتيالات لا تحدث دوما لأسباب إستراتيجية، أو يكون لها دوما نتائج إستراتيجية؛ فأحيانا تكون مثل هذه العمليات لأسباب تكتيكية محضة تغطي مقصدا مباشرا للطرف الذي يقوم بها. فكل العمليات التي جرت من أجل اغتيال سياسيين وكتاب في لبنان بعد اغتيال الحريري كانت كلها للتأكيد على النفوذ السوري والإيراني في لبنان، ونشر الخوف بين السياسيين اللبنانيين وجعلهم أكثر استعدادا للتعامل مع حقائق الوضع بعد ثورة الأرز الشهيرة التي خلقت انطباعا لديهم أن لبنان أصبح حرا. وبالمثل فإن عمليات الاغتيال المكثفة التي جرت في العراق كانت في أغلبها ذات أسباب تكتيكية لخلق حالة من الرعب الجماعي ومنع النظام السياسي الجديد من الظهور، وعندما ظهر منعه من اكتساب قدر أعلى من الصلابة، خاصة الصلابة الأمنية والسياسية. وفي الصراع العربي ـ الإسرائيلي الطويل فإن عمليات الاغتيال استخدمت على الجانبين من أجل قتل أو «تصفية» المتعصبين للحرب والباحثين عن السلام بنفس الدرجة. وفي الحقيقة فإن كلا من الفلسطينيين والإسرائيليين اكتسبوا مهارة عالية في هذه العملية كشف عنها بطريقة مثيرة الفيلم الأمريكي «ميونيخ» الذي أخرجه ستيفن سبيلبيرج ووصل فيه إلى أن الاغتيال هو حلقة جهنمية ينسى الناس في نهايتها سبب البداية.

والغالب أن عملية اغتيال عماد مغنية كانت لأسباب إستراتيجية وتكتيكية معا؛ فبالتأكيد إنها كانت جزءا هاما من الصراع العربي ـ الإسرائيلي الطويل وما استقر فيه من تقاليد تصفية «الرموز» الهامة عندما تم قتل الرجل؛ أو لإحباط عمليات عسكرية مقبلة، فقائد حزب الله بما عرف عنه من مهارة وقدرة يمثل قتله خسارة كبير لحزب الله في حالة مواجهة جديدة ومنتظرة مع إسرائيل؛ أو كما هو جائز وشائع في تاريخ الصراع هي عملية من أجل الانتقام وشفاء الغليل. ولكن لا يجب أن يفوت على أحد أن كل الأطراف تستهدف من الاغتيال في النهاية خلق حالة من الردع أو بث الرعب الذى يمنع التحرك لفترات طويلة. وفي عملية اغتيال مغنية كانت سوريا ذاتها هدفا عندما جرت العملية على أراضيها، فعندما قامت سوريا ـ ومعها إيران ـ بالعمل على إحباط مبادرة «أنابوليس» من أجل تحقيق التسوية في المنطقة من خلال إحباط المبادرة العربية في لبنان وتحريك جماعة حماس للشعب في غزة في اتجاه الحدود المصرية، فإن الأمل من عملية الاغتيال كان بث الاعتقاد لدى دمشق أن لديها مباشرة ما تخشى عليه. ولكن الثابت أن قيمة الردع في تاريخ الشرق الأوسط ضئيلة للغاية لكل الأطراف في المنطقة ومن ثم فإن الاغتيالات قد تعرقل أو تؤخر أو ترسل الإشارات ولكن آثارها على المدى البعيد تكون غالبا ما لم يتوقعه أحد، فاربطوا الأحزمة واستعدوا أيها السادة!.