إنهم يسرقون الحسين!

TT

قدرت مواكب زيارة الأربعين (الخميس 28 شباط) أو صفر أو مرد الرؤوس، حسب ما تعارف على تسميتها، بأربعة آلاف موكب، وأنها ضمت الألوف المؤلفة من البشر. وربما كان هذا الموسم لافتاً للنظر، فمع قرب انتخابات المحافظات التي يُراد لمأساة الإمام الحسين أن تكون طرفاً فيها، بدأ يُعلن عن مواكب إن صحت تسميتها بالانتخابية، فموقع رئاسة الجمهورية نشر خبر مشاركة نائب الرئيس كأحد المشائين إلى كربلاء. وهي بالإعلان عنها لا تختلف كثيراً عن ممارسات سابقة: زيارة القائد لمرقد، أو عبور دجلة سباحة، أو تفقد ثلاجات العراقيين، لا عبادة ولا رياضة ولا تواضعا إنما للإعلام والدعاية!

وأن يكون لرئاسة الوزراء موكبها! ولا يهم البحث في التمويل: أمن المال الخاص أم من الوزارة؟!

فالمال في الدولة العراقية اليوم اختلط فيه الخاص والعام اختلاط الماء في الأرحام!

وهنا اُقدر حالة رئيس الوزراء، فهو يخضع لعلاج، ولربما كان موكبه هذا وخطبته بكربلاء جزءاً من تلك الرحلة العلاجية، ومَنْ منا لم يُقدم نذراً في حياته، أو يحتمي من شر مرض أو عسر حال، أو حتى للنجاح في المدرسة؟! ألم يطلب الرئيس السابق أحمد حسن البكر (ت 1982) الشفاعة من مرقد الحمزة، بمشورة أو منام؟! حتى أخذ العوام يتندرون: «حمزة البكر»! وأمر الشفاعة ليس مرفوضاً في المذاهب: سُنَّية منها وشيعية، وسواها من مذاهب الأديان.

تلك عقائد الناس لحاجة أو عادة! فما حيلة المقهرين والمرضى وهم لا يجدون يسراً في حال ولا سبباً لشفاء، والحائرين بالأيام القادمة وهي آتية أشد حلكة؟! لكن، أن تمارس تلك الطقوس من نيابة جمهورية ورئاسة وزارة، ويطبل لها إعلامياً أمر آخر! تلك الممارسة التي أحسن خطيب المرجعية الدينية بكربلاء عندما حذر من خلطها بالسياسة، وتنويم الناس بها عن فساد بلغ الذروة! وهي، أي زيارة الأربعين، لعلماء دين أفاضل معتبرين في المذهب، والسياسة أيضاً، مثل الشيخ مرتضى المطهري (قُتل 1979)، رأي في أصلها، كي لا يُجعل من نكبة الحسين وسيلة للتباكي، وسبيل تجارة لمال وجاه.

قال المطهري، بحديث طويل منه: «عندما يحين موعد الأربعين نسمع جميعاً بالتعزية الخاصة ... والناس جميعاً يعتقدون بأن الأسرى من آل بيت الرسول قد ذهبوا في ذلك اليوم من الشام إلى كربلاء، والتقوا هناك بجابر، كما التقاه الإمام زين العابدين(ع)... لا يوجد شيء اسمه تجديد عزاء أهل البيت، ولا قدوم الأسرى من آل النبي إلى كربلاء. إن الطريق من الشام إلى المدينة لا يمر عبر كربلاء أبداً...» (الملحمة الحسينية، ص 22). والقصد من الاستشهاد بمقالة الشيخ مطهري ليس إلغاءً للمناسبة أو طعناً في العقيدة بقدر ما نتفهم أنها ليست من الثوابت لدى الشيعة، إلى جانب أن التحذير من استغلال عاطفة الناس، وبهذه الطريقة، أوجب الواجبات.

فبعد سقوط النظام السابق، الذي جار على الزائرين بالقوة، وليس من غرضه تشذيب تلك المناسبات بقدر ما كان همه إشاعة القهر، أخذت المناسبات الحسينية منحىً آخر ألا وهو إدخالها في لعبة السلطة، بل استخدامها في التخدير وكأن الشيعة لا همَ لهم سوى النواح! وهي لعبة الحاكمين لا المحكومين، والحسين قتله الحاكمون وبكاه المحكومون، وما أن يوظف مأساته الحاكمون لا يتركون للمحكومين ملاذاً به.

هناك أمر لا بد من وضعه في الحساب، وهو أن مراسم زيارة أو تذكار الإمام الحسين، مثلما تقدمت عبر التاريخ، شأن شعبي لا شأن سلطة، فإذا ما قُدم بمهرجان الأخيرة فقدَ الحزن النبيل رقته! وفقدت الدموع لمعتها، وهي تجري على وجنات المحبين بعفة عن تظاهر وإعلام. فما قيمة الزيارة إذا حدثت بأمر مبطن أو صريح من قِبل رؤساء الدوائر، واتحادات الطلبة ومجاميع الإسلاميين منهم، تجهز الناقلات وكأنه السوَق إلى نفير عام، على طريقة مهرجانات حزب البعث! للأسف لم يستطع الحالمون بسقوط تلك الدولة تجاوز أساليبها، وربما الحالة بدت أخطر، ففيها استلاب المقدسات.

لقد دخلت مظلومية الشيعة طوراً آخر، وهذه المرة سُرق منهم الإمام الحسين نفسه، واُستحوذ على ما لديهم من المقدس، فالوزير أو المسؤول يلطم معهم باليسرى ويسرقهم باليمنى، وكُرست مأساة حُسينهم إلى دعاية انتخابية، ووسيلة استيلاء على الأطيان والشطآن! ومَنْ يقدر على الإفاضة بالكلام والحكومة حكومة الحسين؟! ونائبها أحد المشائين إليه؟! إنهم يسرقون الحسين حتى لم يعد رمزاً للنجوى والشكوى!