ليالي الأنس

TT

في سنة من السنوات ذهبت إلى (فيينا) عاصمة النمسا ممنياً نفسي (بليالي الأنس) التي غنتها حبيبة القلوب (أسمهان)، وانتم تعرفونني اسكر من زبيبة، فكيف بأغنية، ومن مين؟! من أسمهان التي شبه الموسيقار عبد الوهاب صوتها (بالألماس المجروش)، ومعه الحق في ذلك، حيث إنني لا اعتقد أن هناك صوت مطربة عربية حتى الآن له نفس الشجن والغرابة.. المهم إنني ذهبت إلى فيينا، وكان الوقت عز الشتاء، والثلوج منهمرة، والبلد كئيبة، ولا أعرف فيه ولا (نفاّخ النار)، ولمت نفسي وقرّعتها كثيراً على اختيارها (المهبب) هذا.

مكثت في الفندق يوماً كاملاً لم أخرج منه، واتصلت من هناك برجل اعرف انه قضى عدّة سنوات في النمسا وتركها أخيراً، اطلب منه المشورة، حيث أن هدفي بالدرجة الأولى من هذه الرحلة هو قضاء وقت جميل ولطيف، أطبق فيه مبدأ الأغنية بحذافيرها ـ أي أن استمتع بليال كلها انس وبسط و(فلةّ حجاج) ـ وفلّة الحجاج لمن لا يعرفها ـ هي: أن اجعل من البحر طحينة.

فقال لي: ولا يهمك، (حط في بطنك بطيخة صيفي) وانتظر لا تتحرك من مكانك، رددت عليه: كثّر الله خيرك، وفعلاً جلست منتظراً بعد أن دحشت في بطني تفاحة كاملة وجدتها في سلة الفاكهة.

وما هي إلاّ نصف ساعة وإذا بالتليفون يرن، رفعت السماعة وإذا بصوت يأتيني عبرها لا يمت للجمال بأية صلة، وإذا به احد الأخوة العرب المستوطنين بالنمسا منذ سنوات، عرفت منه انه صديق لذلك الرجل الذي اتصلت به، وقال لي انه سوف يمر عليّ في الساعة السابعة مساءً لنذهب إلى مكان سوف استمتع فيه ما لم استمتع بمثله طوال حياتي، ومن فرحتي بوعده ذاك انتصبت واقفاً والسماعة بيدي احتراماً وتقديراً له لأنه سوف يحل أزمتي المستفحلة.

وبدأ (وعثاء السفر وكآبة المنظر) تنزاح من (خلقتي) دفعة واحدة، وعاودتني الابتسامة التي من النادر أن تفارقني، وبدأت اضحك بصوت مرتفع، بل وأقهقه أمام المرآة كأي مجنون، أو كأي عريس ليلة الدخلة، وفتحت حقيبة ملابسي وبدأت أعلقها وأرتبها كأي ربة منزل نشيطة، واخترت من ملابسي اشيكها، واحترت هل البس (كرفتة أم بابيون أم إيشارب)، واستقر رأيي أخيراً على الإيشارب، لأنه يظهرني أكثر شبوبية وولدنة.

وأخذت (دشاً) ساخناً جداً ليحرّك الدم المتجمد في عروقي، وحلقت ذقني ثلاث مرات متعاقبة لأبدو مثل ممثلي السينما، ولمعت بيدي حذائي، وقلمت أظافري، وتأكدت أن لياقتي هي على ما يرام، وبعد أن انتهيت وأصبحت مثلما يقول إخواننا أهل مصر (على سنكة عشرة) بخخت على وجهي وملابسي شيئاً من (الكولونيا) الليمونية التي أفضلها، ونزلت إلى (اللوبي) وأنا اردد: (يا أرض احفظي ما عليكي)، وما هي إلاّ دقائق وإذا بحضرته يشرف، كان رجلاً وجهه مجدور على شيء من البشاعة والرزانة معاً، تصافحنا وتعارفنا وتكلمنا قليلاً ثم انطلقنا بسيارته ولم يردنا غير مبنى (الأوبرا) الفخم حيث حجز لنا مقعدين، تفاجأت واسقط بيدي، لأنني اعرف نفسي (فوجهي ليس وجه أوبرا)، ولكنني استسلمت، وإذا بمقعدينا يجاوران رجلاً وامرأة طاعنين في السن، وسمعتهما يتحادثان دون أن افهم حوارهما، غير انني عندما شاهدت رفيقي يضحك، استعلمت منه عن الحكاية، فقال انهما ليسا زوجين، ولكن المرأة سائحة، وقد سألها الرجل: كيف تسبحين وحدك؟! فأشارت المرأة إلى شعرها الرمادي وقالت: عندما يكتسي رأس المرأة هذا اللون، فلا خوف عليها، وأجابها الرجل بكل خبث ولآمة: لكن هناك مثلاً شعبياً لدينا يقول: من الدجاجة الهرمة يصنع أفضل حساء، وضحكت المرأة مثلما أنت ترى.

قلت له: هنيئاً له بذلك الحساء آخر الليل، وهنيئاً لي (بالأوبرا) وبالبرد وضيقة الصدر في آخر الليل.. وتركت (فيينا) في ثالث يوم دون أي انس، وكل ما نابني هو تعليق ملابسي، ثم إنزالها (ودعفستها) في حقيبتي مرّة أخرى.

[email protected]