كي لا تسيّس العدالة الدولية

TT

طعْن الرئيس اليوغوسلافي السابق، سلوبودان ميلوشيفيتش، في دوافع محاكمته وقوله انها «سياسية» فحسب، يبدو من «تحصيل الحاصل»، فالجرائم المتهم بارتكابها تندرج في خانة تعامله «السياسي» العام مع الاحداث في منطقة البلقان طوال عقد التسعينات، ليس أقلها مواقفه السياسية التي تسببت بتهجير نحو 740 ألف ألباني من كوسوفو، والمجازر التي استتبعها تعامله السياسي مع الحركات الاستقلالية لشعوب يوغوسلافيا السابقة... الامر الذي يكرس مسؤولية الجهة القضائية المعنية بجرائم الحرب في محاكمته عن «سياساته» المتهورة. الا ان التحدي الحقيقي لمحاكمة ميلوشيفيتش ليس في دوافعها لجلب الرئيس اليوغوسلافي السابق أمام محكمة لاهاي الدولية لجرائم الحرب، بل في ما سيؤول اليه دور المحكمة «بعد» محاكمته. على هذا الصعيد بالذات يمكن اتهام العدل الدولي بالتسيّس وبازدواجية المعايير... إذا اقتصرت ملاحقاته على سياسيين من لون واحد وتجنبت مقاضاة آخرين لاعتبارات سياسية ومصلحية.

حتى في قضية الرئيس اليوغوسلافي ميلوشيفيتش، يصعب التغاضي عن مسؤولية عواصم الغرب في غض النظر عن تصرفاته لعقد كامل تقريبا. وقد يكون في جعبة ميلوشيفيتش نفسه ما يدين الغرب الاوروبي على الاقل عن «غض طرفه» لسنوات عديدة عما كان يجري أمام أعين الاعلام المنظور والمسموع والمكتوب، وعن «الصفقات» التي رافقت سياسة «غض الطرف» بداعي افساح المجال لخطة سلام اوروبية فشلت حتى في وقف غزوات الرئيس اليوغوسلافي العسكرية، ان لم تتح لها فرصة أفضل لتحقيق اهدافها ـ ولم تفلح، بالمقابل، في تحقيق هدفها غير المعلن في الحؤول دون تدخل أميركي عسكري في عقر دارها وفي بداية عصر ما بعد الحرب الباردة ـ وهو التدخل الذي حدد مسؤولية ميلوشيفيتش في تفجير حروب البلقان.

من هنا ضرورة محاكمة ميلوشيفيتش ليس على ما فعله في كوسوفو فقط بل ما فعله في كرواتيا والبوسنة ايضا، وضرورة مراجعة العواصم الغربية لمسؤوليتها في ترك الاوضاع تتدهور في البلقان الى حد لم يعد يستسيغه الضمير العالمي... علّ هذه المراجعة تخرج محاكمات جرائم الحرب عن نطاق الاتهامات المترددة منذ الان بازدواجية المعايير «الغربية». وباختصار يمكن القول ان لائحة مجرمي الحرب في العقدين المنصرمين فقط كافية لاشغال جلسات محكمة لاهاي لسنوات عديدة مقبلة.