شاهد على المأساة

TT

لندع جانباً ما يقوله المسؤولون الاسرائيليون، السياسيون والعسكريون، وما قاله السفير الاميركي لدى اسرائيل مارتن انديك، من ان ياسر عرفات وحده المسؤول عن العنف، ولندع جانباً ايضاً ما يقوله الاسرائيليون من أن عرفات هو الذي يخطط «العمليات الارهابية»، بل لنفترض انه يختار من ينفذها ويكتب قائمة بأسماء الاسرائيليين الذين يجب ان يُقتلوا من جراء كل عملية يمضي الليالي وهو يخطط لها ويختار موقع تنفيذها، وانه شخصياً المحرك الأساسي للانتفاضة، ولندع جانبا ايضاً ما تسوقه اسرائيل في العالم، وخصوصاً في واشنطن، من انها «الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة» و«المحبة للسلام» وان العرب والمسلمين همهم الوحيد اقتلاعها من الوجود، رغم القرار الذي اتخذه السياسيون الاسرائيليون وطلبوا من الجيش تنفيذه ويقضي بقتل كل فلسطيني «تتأكد» اسرائيل من انه يخطط لزرع متفجرات ضد المدنيين الاسرائيليين، كما حصل عندما قتل الجيش الاسرائيلي يوم الاثنين الماضي سائق تاكسي في الضفة الغربية بدعوى انه كان «يخطط لزرع المتفجرات على حافة الطريق» وانه قُتل و«أداة الجريمة» في يده، فاذا بها تحوي بعض المأكولات لأولاده! سأدع هذا كله جانباً وأترك عرفات يدافع عن نفسه وعن خططه وأحلامه وأشير بتركيز الى التحقيق المثير الذي نشره ادوارد بيلكنغتون في صحيفة «الغارديان» اول من امس (الاربعاء) وأدعو الاسرائيليين ـ الذين يعتقدون ان الفلسطينيين يقدمون على قتلهم فيضطرون هم فقط للدفاع عن انفسهم ـ الى قراءته ليدركوا انه بعد فترة لن يحتاج الشعب الفلسطيني الذي تقمعه وتذله وتجوّعه القوات الاسرائيلية بأوامر من السياسيين الاسرائيليين، وقد نال احدهم جائزة نوبل للسلام ـ يا للسخرية ـ لن يحتاج الى عرفات او برغوثي او زهّار او ياسين ليثور ضد كل هذه المعاناة التي يسببها شبان اسرائيليون، ربما لا يتجاوز عمر الواحد منهم العشرين عاماً. التحقيق يركز على حي «المواسي» للبدو الفلسطينيين الواقع على الشاطئ جنوب غزة، ويسميه ابناؤه «سجن داخل سجن». ومأساة هذا الحي انه واقع بمحاذاة غوش قطيف الذي يضم 13 مستوطنة، ولحماية هذه التجمع اقام الجيش الاسرائيلي سوراً من الفولاذ حول المواسي بحيث يصعب على ابنائها الخروج او الدخول الى الحي الا بإذن خاص لا يأتي بسهولة، ووزع عليهم ارقاماً هي حمايتهم الوحيدة.. رقم زعيم المواسي احمد مصطفى المجايدة 183 وهو يقول: «جعلونا نشعر كالحيوانات، ووسمونا بأرقام» (صحيح ان التاريخ يعيد نفسه). يبدأ التحقيق مثل فيلم سينمائي بأم محمد زوارب الواقفة في عز حر الظهيرة منذ اكثر من ساعة عند نقطة تفتيش «التفاح» ومعها اكثر من عشرين شخصاً، الكل يريد الوصول الى حي المواسي بعد ان خرجوا لشراء بعض الملابس والغذاء. لا يرون الجندي الاسرائيلي بل يسمعون صوته مهدداً: «عودوا الى الخلف، الآن، تحركوا وإلا لن نسمح لكم بالدخول». داخل حي المواسي يجلس صيادو السمك على شباكهم الممزقة، فالصيد ممنوع والبحر للاسرائيليين. السائق عزيز عبد الإله كان مزارعاً لأربعة أشهر خلت عندما وصل الجيش وجرف الأرض بما عليها «كانت اشجار النخيل فيها اقدم من الاحتلال الاسرائيلي لغزة»، الآن لا يملك عبد الإله شيئاً ولا يريد سوى السلام، يقول: «لا افهم الانتفاضة ولا أفهم الاحتلال»! ونصل في التحقيق الى الأرض المواجهة لأرض عبد الإله المحروقة. هناك مسبح يستمتع فيه النساء والأطفال، يديره مستوطن اسرائيلي من اصل روماني اسمه موشيه فيس، يقول للغارديان: «انها حياة ممتعة هنا، تريد شاطئاً، انه هنا، تريد بركة سباحة، انها هنا، تريد ان تلعب كرة السلة، هنا، كل ما تريده متوفر هنا».

ألا يذكرنا تحقيق «الغارديان» بدولة جنوب افريقيا العنصرية وما آلت اليه؟ ثم لو ان وزير الخارجية الاميركي كولن باول حاول الدخول الى المواسي وتطلع الى منتجع السيد فيس لربما كان تذكر زعيمه مارتن لوثر كنغ وعبارته المشهورة: «عندي حلم». لذلك بسبب معاملة اسرائيل، لن يحتاج بعد فترة قصيرة الفلسطينيون الى عرفات او الى غيره، ولا بأس لو قرأ شارون ما قاله علي بن ابي طالب: لو كان الفقر رجلاً لقتلته.

لأن هذا ما يدفع اليه.