المراجعة النقدية وصناعة المستقبل

TT

ما زالت مقولة «الاقتصاد محرك التاريخ» قائمة. فالكثير من الشواهد التي نراها متعلقة بالاقتصاد وتحولاته، ومن ابرزها كسر القيود على الاسواق وتحول كوكب الارض الى سوق واحدة مفتوحة، وفقدان فكرة «السيادة» على الدولة وحدودها لقوتها المنيعة وتلاشيها بالتدريج امام اجتياح ظاهرة العولمة، وكذلك ما يتعلق بحركة الافكار وتداولها، حيث راحت الثقافة التي تتناقلها ثورة المعلومات تغزو مواقع عديدة بعضها له تفرد خاص وتاريخ طويل يكاد يكون بغير شبيه خارج حدوده الثقافية. فها هي الصين تواجه غزو الطعام السريع، ولكنها في الوقت نفسه تتقبل الكثير من الثقافات الغربية وطرق التفكير الاوروبية والفنون المغايرة، كالمسرح والسينما والموسيقى. ومثل هذا الغزو ـ أو قل «التأثر» ـ يمتد الى كل الثقافات التي تعيش على ظهر الكوكب، وهي كلها امور لا تكرهها الشعوب. وربما كان الانتشار الثقافي يستوعب في حركته فنونا وابداعات من كل الحضارات. والثقافة من الصعب ان تفرض فرضا، فحتى مع التقدم الخطير لتكنولوجيا نقل المعلومات ـ التي اعطت الفرصة لصاحب الفكر أو الغرض أن يخاطب ملايين البشر في كل مكان في نفس اللحظة ـ الا أن هناك دائما نوعا من الاستيعاب الجماهيري يقوم باختزال الخطاب الموجه اليه ونقده. حقا ان ثورة المعلومات وثراؤها البالغ دفعا الجماهير التي تتلقى هذا الخطاب الى الالتجاء لتقبل أو صياغة المقولات العديدة المختلفة في قوالب حتى يمكنها بلورتها واختزال تفاصيلها الى اقصى درجة، مما يؤدي الى اخطاء فاحشة أحيانا، ولكن المصادر المبدعة أو الناقلة للمعلومات ليست خاضعة تماما لخطاب واحد، وعلى الرغم من أن مصالح قوية في الدول الكبرى تحاول ان تفرض خطابها، الا ان المقاومة قائمة، وكثيرا ما لا يتيسر لهذه القوى ـ رغم جبروتها وقدراتها الفائقة ـ ان تطوع القائمين على وسائل الاتصال الجماهيري وتفرض عليهم خطابها، وربما كانت الظاهرة الاكثر بروزا في زماننا المعاصر هذا، محاولة رجال الصحافة والفكر والفن الافلات من هيمنة اصحاب المصالح، ونحن نرى بعض الاشارات هنا أو هناك دالة على احتدام هذه المعركة.

وفي كل اجتماع للدول السبع الكبار نرى المظاهرات المعارضة، وكلها حدث ويحدث في الدول الغربية الغنية، واذا كانت هذه المقاومة ليست فاعلة بعد، الا اننا نلاحظ ان احزاب الخضر المختلفة تتوسع، وكذلك المؤسسات المدنية التي ترعى حقوق الانسان، اما الكتابات الجديدة فتدك المفاهيم القديمة دكا، بدءا من مناهج الدراسة القديمة، مثل اعتماد النصوص التوراتية كما هي متداولة الان كمرجع اساسي للتاريخ وما كان يتبع ذلك من تطويع متعسف للوقائع التاريخية لتلك النصوص حتى لو كانت المصادر الموثقة متناقضة معها، وكذلك الامر بالنسبة للظاهرة الاستعمارية التي وضعت تحت البحث والمراجعة وأدت الى ظهور تيارات جديدة تتجاوز تلك المرحلة وتسمي نفسها بثقافة ما بعد الاستعمار. ومن ابرز هؤلاء الدارسين الكاتب الامريكي الفلسطيني ادوارد سعيد، الذي اقام مشروعه الثقافي على كشف الاخطاء والمغالطات التي سادت التعبير الفني والروائي بصفة خاصة في الفترة الاستعمارية.

هناك الكثير من المسميات التي تفصل الفترة الراهنة عن سابقاتها، مثل ما بعد الحداثة، وغير ذلك من المراجعات العديدة، وقد تكون تلك المقاومة ضعيفة بعد، ولكنها تتغلغل كل يوم في المجال الثقافي حتى في الكتابات الاقتصادية المتخصصة، وتكاد الرؤية الجديدة تنحاز الى فكرة تغليب الصالح الاجتماعي على تغليب الفردية وما ادت اليه من انقسامات طبقية وصدامات اجتماعية، مع ان هذا الانحياز ليس تقليديا اذ أنه في الواقع يزاوج بين ازدهار المجتمع وازدهار الافراد. ويكثر الان تداول مفهوم السعادة للبشر باعتباره هدف كل نشاط انساني بديلا عن مفهوم الربح الذي ما زال مهيمنا ويشكل تيارا اساسيا، وربما كان اقوى التيارات في الخطاب الاجتماعي الذي تنشره وتتوسع فيه وسائل الاتصال الجماهيرية.

وسواء قبلت القوى المهيمنة فكرة أننا مقبلون على مرحلة جديدة في التاريخ البشري أو لم تقبلها، فان واقع الحياة اليومية لا يكف عن التنبيه على هذا التغيير. ومنذ عقد كانت فكرة اننا مقبلون على عالم جديد وانه يقتضي نظاماً دولياً جديداً واضحة حتى لدى المعسكر المهيمن، والذي مازال يضع حافز «الربح» والتميز عن الآخرين هدفه الاستراتيجي، ويبني اخلاقياته على أساسه وهو الذي أدى الى ظاهرة الاضطهاد العنصري في أكثر من بلد اوروبي، وكراهية الاجنبي، والزعم بأن معيار القوة هو اساس النجاح وبالتالي شرعية التميز، وهذه كلها افكار قديمة استخدمتها الاحزاب الفاشية منذ عشرينيات القرن العشرين المنصرم.

وعلى الرغم من الاحاديث الكثيرة عن النظام الدولي الجديد، الذي بشر به الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش، إلا ان هذا النظام لم يتحقق، وكانت السلطات الاميركية هي أول من اقام العراقيل في طريقه. والواقع ان من ينظر الى السياسات القائمة يرى ان مقتضيات التحولات المختلفة، بما في ذلك حركة أو مسيرة العولمة تتطلب اقامة هذا النظام. ولأن الولايات المتحدة صارت هي القطب الأوحد الذي يهيمن على الكثير من مقدرات هذا العالم راحت مقاومتها لتحقيق النظام الدولي الجديد تزداد طوال العقد الذي انقضى منذ حرب تحرير الكويت، ولكن الولايات المتحدة ليست كتلة موحدة من أجل تحقيق هذه السيادة، وهناك قوى تعارض هذه التوجهات المعرقلة للنظام الدولي الجديد. أما معارضة الدول الأخرى فصارت أكثر وضوحاً، ونحن نراها بصفة خاصة في الاتحاد الاوروبي الذي بدأ المقاومة ويسير حثيثاً نحو ان يكون قوة موازية، كما ان الاتحاد الروسي راح يتململ بشكل علني ويهدد باستعمال حق الاعتراض (الفيتو) في مجلس الأمن بالنسبة لقرارات تخص العقوبات المفروضة على العراق. وقد ظهر ان روسيا الاتحادية لم تكن وحدها التي تعارض قرارات المقاطعة الجديدة (العقوبات الذكية) بل شاركتها فرنسا من خلال تصريحات واضحة على لسان الرئيس الفرنسي جاك شيراك.

على ان الولايات المتحدة مدركة لأهمية وفاعلية الثقافة الجديدة التي تعتبر المنظمة الدولية المشكلة على أسس ديمقراطية هي هدف الجماعات البشرية الحالية، مما يضطرها الى المواءمة بين هذه الثقافة والمصالح الذاتية لقواها الاجتماعية البالغة التأثير، مثل تبنيها فكرة محاكمة الطغاة الحاكمين على ما ارتكبوه من جرائم ضد محكوميهم أو حلفائهم السابقين. وكان اعتقال سلوبودان ميلوسيفتش، سفاح يوغسلافيا الصربي ومحاكمته أمام المحكمة الدولية نوعاً من هذه الاستجابة. ومهما يكن وراء الأداء الاميركي من اغراض خفية، فان ظاهر الفعل يتفق مع أماني المجتمع الدولي في عدالة تطال حتى رؤساء الدول الباطشين. ومهما يكن من ازدواجية النظر، كالحادث في المحاباة الظالمة لاسرائيل ولسفاح لا يقل خطورة عن هذا الصربي الوحشي والمتعجرف هو ارييل شارون الذي قد يزيد وحشية وعجرفة عنه، إلا ان أمد انقضاء هذه الازدواجية ليس بعيداً، لا بسبب ان هداية سوف تهبط على قلوب اعضاء الادارة الاميركية، بل لان هذا هو منطق التحولات التي تحدث في العالم وتتطلب انهاء كل الرواسب القديمة والمتخلفة والتي ترجع الى الفترة الاستعمارية وثقافتها الشائنة.

حقاً ان ما يجري على ارض الواقع قد يكون مختلفاً تماماً عما يدور في أذهان المفكرين الموضوعيين أو الأدباء والفنانين، ولكن هذا الفكر وهذا الفن ليسا مفصولين عن الجماهير التي تتشكل منها هذه المجتمعات القوية، فهو تعبير عن الهواجس والاماني والمخاوف التي تدور في اذهان الناس، وكل فكرة أو عمل ابداعي، حتى الاكتشافات العلمية، انما هي تصورات عقلية لهذه المجتمعات لا تلبث ان تتحول الى افعال وسلوكيات.

ولكن في فترات الانتقال الكبرى يحتاج الناس الى زمن للمراجعة واعادة النظر في الزمن المنقضي، وهي فترات خالية غالباً من الرؤى الفلسفية أو الاجتماعية التي تصل الى درجة «المشروع»، مثل ظهور الليبرالية أو الاشتراكية في القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين. فقبل ظهور هذين المشروعين كان على الناس ان يراجعوا كل المفاهيم القائمة، بدءاً من القوانين الفلكية الى القوانين الفيزيائية فضلا عن المنظومات الأخلاقية والفكر الفلسفي. ونحن الآن في نقطة تحول لم يتبلور لها «مشروع» أو «مشاريع» فكرية، وهي تشمل السياسة والاجتماع والاقتصاد، وابرز ما فيها هو المراجعات النقدية التي تعيد النظر في كل شيء، وبصفة خاصة في التاريخ المنصرم ودلالاته. ولذلك ما اكثر الدراسات التي راحت تتوالى منذ بروديل الفرنسي الى المؤرخين الجدد في اكثر من مجتمع، بما في ذلك اسرائيل البالغة التعصب والانغلاق الفكري والتي تملك اشرس فظاعات اليمين المتطرف في العالم كله. ومن يراجع الابداعات التي تظهر في الفلسفة أو الاجتماع أو الاقتصاد يجد انها تتسم بذلك البعد النقدي الذي يهدف الى تفكيك مفاهيم كانت ثابتة ومستعصية على النقد طوال القرن التاسع عشر حتى الجزء الاكبر من القرن العشرين.

وهذا الاتجاه نحو المراجعة الشاملة لا تنجو منه حتى المواقع المحافظة أو الثقافات المغلقة، اذ صرنا نرى بين وقت وآخر نظرة مراجعة هنا أو هناك في منطقتنا ايضا، فهناك اتجاه نحو تأمل الاحداث القريبة الماضية بما في ذلك اتجاه السينما المصرية للنظر في تجربتي جمال عبد الناصر وأنور السادات، فضلا عن تأملات اخرى مثل حياة الفنانين الذين اثروا في الحياة الاجتماعية والفنية، مثل أم كلثوم، أو كبار الادباء والمفكرين مثل عباس محمود العقاد وطه حسين. حقا ان هذه المراجعة لم تكن نقدية، بل لعلها كانت من قبيل رأب الصدوع النفسية التي نشأت بسبب الظروف الصعبة التي يمر بها المجتمع المصري، وهي اشبه بالحوافز النفسية لاسترداد الثقة الضائعة بالنفس، وبالتالي فهي ليست تلك المراجعة العصرية التي تنشد النظرة الموضوعية الشجاعة التي تتجه الى المستقبل وصناعته.

ومع ذلك فان نظرة الى الفوضى الفكرية والثقافية التي نراها في ظواهر متعددة، وكذلك الرغبة في مراجعة الماضي القريب والبعيد، تظهران في اكثر من مناسبة، وربما بعد قليل من الاصلاح السياسي يستطيع المجتمع المصري ان يراجع نفسه وان يتمكن من صناعة مستقبله.