الفلسطينيون والإسرائيليون يحتاجون إلى روحية مفاوضات «ايفيان»

TT

جرت مفاوضات «ايفيان» قبل اربعين عاما لوضع اللمسات الاخيرة على قيام دولة جزائرية مستقلة بعد مرور 132 عاما من الحكم الفرنسي. فهل هناك ما يمكن ان يتعلمه الفلسطينيون من هذه التجربة الجزائرية؟

لم يمكن عقد مفاوضات «ايفيان» الا بعد توفر امرين، اولهما ادراك حركة الاستقلال الجزائرية وفي طليعتها جبهة التحرير ان ليس في وسعها تحقيق نصر عسكري على فرنسا مقابل استيعاب فرنسا بدورها عجزها عن احراز نصر سياسي على جبهة التحرير، بعد هذا الادراك المتبادل خلص الطرفان الى الاستنتاج بأن بامكانهما تحقيق نصر دبلوماسي.

كما كانت هناك عوامل اخرى مساعدة منها وجود الجنرال شارل ديغول على رأس فرنسا، ورغبة الرأي العام العالمي البالغة في انهاء الحرب الدائرة في الجزائر. وحتى موسكو التي شجعت النزاع بأمل اضعاف حلف شمال الاطلسي (ناتو)، وفرنسا عضو كامل العضوية فيه، ادركت ان التوترات بين الدول المطلة على البحر الابيض المتوسط لا تتناسب بالضرورة مع مصالحها في السعي وراء انفراج العلاقات.

رغم ذلك، ينبغي ان نرجع الفضل في المقام الاول الى الدبلوماسيين الجزائريين والفرنسيين الذين توجهوا الى «ايفيان» بجاهزية عالية. وكانت المطالب الجزائرية حينها محددة وواقعية وتنطلق من نوايا حسنة. ولم يتجه الجزائريون الى هناك بقصد اهانة الفرنسيين او سعيا للانتقام منهم، بل امتازوا بالفاعلية والجدية وتمييز متى يلجأون الى الحزم او الى اللين. وربما كانوا يدركون غريزيا كيف يتعاملون مع عنصر الوقت في تشكيل المستقبل. ولهذا وافقوا على اجراء فرنسا تجاربها النووية في زاوية من الصحراء الجزائرية في السنوات التالية، كما لم يطالبوا حتى بطرد المستوطنين الاوروبيين في الجزائر، بل على العكس دعوا هؤلاء الى البقاء كمواطنين جزائريين. اذاً كانت المطالب الجزائرية واضحة ومعقولة للغاية الى درجة يستعصي على اي كان تحريفها خوفا من خسارة التأييد العام.

ونجح الجانبان الجزائري والفرنسي في تطوير علاقة خاصة وجديدة، فبعد مرور اربعين عاما اصبحت فرنسا الشريك التجاري الاول للجزائر التي تغطي تعاملاتها التجارية مع فرنسا ثلث قيمة تجارتها الخارجية. وطيلة الاعوام الاربعين الماضية كانت الجزائر مصدرا رخيصا للطاقة بالنسبة لفرنسا، بينما فتحت فرنسا ابوابها لقرابة مليوني عامل جزائري وعائلاتهم. فماذا يمكن للفلسطينيين ان يتعلموا من هذه التجربة؟

ان اهم الدروس المستفادة من تلك التجربة رسم موقف واضح ومحدد ومعلن، وخلال العقد الماضي، اي منذ تدشين مؤتمر مدريد عملية السلام، لم يطرح الفلسطينيون مثل هذا الموقف ابدا، بل دائما ما كانت مواقفهم تأتي ردا على مقترحات يطرحها الآخرون، وغالبا من جانب الاسرائيليين. ولهذا فانهم تعثروا وتقهقروا عن مطالب رفيعة الى اخرى سخيفة، ومن مائدة مدريد الى فتات تقرير ميتشل مرورا باتفاق اوسلو وواي ريفر وطابا. كما طرحت العديد من الخطط سواء كانت حقيقية او متخيلة، فهناك خطط آلون وشامير ورابين وبيريز وباراك، وحتى خطة كلنتون. مع ذلك ليس من بين تلك الخطط خطة واحدة لعرفات، وعندما يتوجه المفاوضون الفلسطينيون الى طاولة المفاوضات فانهم يفعلون ذلك ليروا ما سيطرحه الآخرون عليهم. لهذا على القيادة الفلسطينية تحديد خطتها بنفسها واطلاع شعبها والعالم على تفاصيلها وعلى ما يمكنها القبول به وما سترفضه على الدوام.

وبينما كان اسلوب الجزائريين عصريا في التفاوض، مارس الفلسطينيون شكلا تقليديا من دبلوماسية السرية والكتمان. مما قاد الى وضع يتسم بالغرابة تمكن فيه شارون من الزعم بأن الفلسطينيين راغبون في مسح دولة اسرائيل عن الخارطة، بينما يصر بيريز على ان الفلسطينيين سيكونون شركاء اسرائيل في الهيمنة على اقتصاد الشرق الاوسط. ينبغي على قادة الفلسطينيين الادراك بانهم منخرطون في تجربة كلاسيكية لزوال الاستعمار، وان هذا يستتبع انسحاب القوة الكولونيالية نهائيا وتأسيس دولة وطنية مستقلة لمن كانوا محتلين. ويتطلب زوال الاستعمار اعادة ترسيم حدود الاراضي المتنازع عليها، وهنا هل يريد الفلسطينيون استرجاع كامل اراضي فلسطين التاريخية التي تشمل اراضي دولة اسرائيل ايضا؟ لو كان الجواب على هذا السؤال بالنفي حينها لا مناص من الافتراض بان الحل سيكون ضمن اطار وجود دولتين.

فما هو الموقف الذي ينبغي ان يركز عليه الفلسطينيون؟

من الواضح ان الدولة الفلسطينية المستقلة ينبغي ان تأتي على رأس المطالب الفلسطينية. وكانت الامور ستكون اسهل بهذا الاتجاه لو ان الفلسطينيين اعلنوا استقلالهم وشكلوا حكومتهم كما فعل الجزائريون قبل مفاوضات «ايفيان». وبهذا كانت المفاوضات ستجري بين قوتين تمتلكان سيادة وتتمتعان بوضع متساو امام القانون، وان كانتا لا تتمتعان بقوة عسكرية واقتصادية متكافئة.

ينبغي على الفلسطينيين ان يكونوا صرحاء ويحددوا الاراضي التي يريدون استرجاعها، وهنا فان المطالبة بـ 98 في المائة من الاراضي المحتلة مطلب معقول. (تحتل المستوطنات الاسرائيلية حاليا الـ 2 في المائة المتبقية). في المقابل، يتوجب على اسرائيل تقديم قطعة من اراضيها بنفس الحجم والمواصفات الى الدولة الفلسطينية الجديدة. وسيفوت البت في هذه المسألة والاعلان بوضوح عنها فرصة زعم شارون ان الفلسطينيين يريدون استعادة كامل اراضي فلسطين التاريخية ويتمنون بينهم وبين انفسهم طرد اليهود منها. اما المشكلة الثانية فهي مشكلة القدس، وهنا ينبغي على الفلسطينيين المطالبة بكامل السيادة على المناطق التي تقطنها اغلبية عربية داخل المدينة المقدسة، وهذا يتضمن الحرم الشريف ومعظم اجزاء الحي الارمني. وغني عن القول ضرورة الابقاء على المدينة المقدسة منزوعة السلاح وضمان حرية الوصول الى الاماكن المقدسة لاتباع كل الاديان. ومرة ثانية فان طرح الفلسطينيين موقفا واضحا ومحددا ومعقولا سيجهز على محاولات المتشددين من الاسرائيليين في تحويل القدس الى قضية عاطفية وعذر لتأجيل ازالة الاستعمار.

اما القضية الجوهرية الثالثة فتخص اللاجئين، وفي اللحظة التي قبل فيها الفلسطينيون بحل الدولتين يصبح من غير الممكن لهم المطالبة بحق العودة الفورية لكل اللاجئين البالغ عددهم 5.3 مليون والموزعين في ارجاء العالم الى اسرائيل. كما لا يمكن لاسرائيل في المقابل ان تتوقع من الفلسطينيين التخلي احاديا عن حق العودة الذي يكفله القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة.

وربما يكون الموقف المعقول هنا مطالبة اسرائيل بتحمل نصيبها من المسؤولية تجاه اللاجئين والقبول باستقبال عدد من الفلسطينيين الراغبين بالعودة بصورة لا تخل بالتوازن الديموغرافي الحالي وبما لا يهدد الصفة اليهودية لاسرائيل. اما عن هؤلاء الذين لا يقدرون او لا يرغبون بالعودة من اللاجئين فينبغي طرح حلول متعددة عليهم من التعويض المالي او الاستقرار في اوروبا واميركا الشمالية واستراليا او الاقامة الدائمة في الاماكن التي يقيمون فيها حاليا.

ونكرر هنا من جديد ان موقفا فلسطينيا محددا تجاه هذه القضية سيجعل الزعم بوجود خطة سرية عربية ترمي الى اغراق اسرائيل باللاجئين وتدمير الشخصية اليهودية تبدو مضحكة وفارغة. بل ان بامكان الفلسطينيين ان يتعلموا درسا آخر من الجزائريين في هذا المقام ويعرضوا على الاسرائيليين موافقتهم على بقاء المستوطنات اليهودية الحالية شريطة ان يتخلى سكانها عن المواطنة الاسرائيلية والقبول باخرى فلسطينية. كما ينبغي على الفلسطينيين طرح سياسة الابواب المفتوحة بما يكفل حرية تحرك الناس والبضائع. ولا حاجة للقول بانه يتوجب على الجانبين الا يدخلا في تحالفات ضد احدهما الاخر. ولا يمكن عقد محادثات مثمرة الا في ظل وجود خطتين واضحتين ومحددتين، واحدة من الاسرائيليين والاخرى من الفلسطينيين. اما هدف المفاوضات فينبغي ان يكون سد الهوة بينهما.

لقد آلت عملية السلام التي دشنها اتفاق اوسلو الى كارثة لان الغموض كان يغلف كل قضية من قضايا المفاوضات. وكانت الفكرة الاساسية تجنب الخوض في «التسوية النهائية» مما كان معناه من جهة عملية الالتفاف على قضايا المفاوضات. فالاسرائيليون لم يتمكنوا ابدا من معرفة حقيقة ما يريده الفلسطينيون، اما الفلسطينيون فانهم لم يتأكدوا ابدا من معرفة ما يعرضه الاسرائيليون عليهم.

وعندما طرح باراك عرضه الاخير كان خطة فذة في الازدواجية، فرفضها الفلسطينيون لكن دون ان يكشفوا عن طبيعتها، كما لم يواجهوها بطرح خطة واضحة وصادقة من جانبهم.

لقد حان الآن وقت قيامهم بذلك بدل اهدار الوقت مع تقرير ميتشل الذي يتصدى لما هو آني سريع الزوال. ان الشرق الاوسط بحاجة الى روحية مفاوضات «ايفيان».