سورية تنفتح على نفسها

TT

حضرت في «الدورشستر» جزءا من المؤتمر الذي عقد على مدى يومين تحت شعار تشجيع الاستثمار في سورية. وفي لغة «الظروف الموضوعية» كان المؤتمر عملا ناجحا الى اقصى ما يمكن. فقد وقف الاستاذ وفيق السعيد وراء التنظيم، وهذا حقله وهذه ساحته. واعطى حضور الاستاذ فاروق الشرع البعد السياسي المفترض لمؤتمر اقتصادي هو الاول من نوعه بالنسبة الى سورية. وكان الحضور نفسه عديدا ورفيعا. ومن الاسباب الاخرى غياب النفاق اللبناني، الذي حل محله حضور راق من رجال الاعمال.

شعرت بشيء من الغبطة وانا اتابع المؤتمر: الجميع يتحدث بلغة الارقام. والارقام لها لغة واحدة، صريحا ومفهومة. والجميع يدعو سورية الى تحديث القوانين المالية والنظام المصرفي وآليات العمل. وهذه طريق المستقبل التي دشنها الرئيس بشار الاسد. والجميع متفقون، على ان سورية بلد الثروات المطمورة والكفاءات المغمورة والازدهار الذي ينتظر من يستكشفه. لكن سورية لا تستطيع الافادة من كل ذلك بالقوانين الاقتصادية التي تغلق عليها آفاق التعاون مع سائر بلدان العالم التي تعمل بانظمة وقوانين وقواعد الاقتصاد الحر. ولا تستطيع دولة في حجم سورية وطاقاتها ان تبني اقتصادا في مستواها من خلال نافذتي لبنان او العراق وحدهما، مهما اتسعتا. ولا يمكن للاقتصاد السوري ان يستمر في الاعتماد على النظام المصرفي اللبناني، الذي تشكل عمليات التجار السوريين اكثر من 40% من حياته، والذي يشكل المصرفيون السوريون العاملون في بيروت، عنوانا من عناوينه.

في مرحلة من المراحل كان المال الذي هرب من عمليات التأميم في سورية، هو الذي بنى جزءا من الازدهار الذي عرفه لبنان. فقد حمل التجار السوريون رساميلهم وشطارتهم واستفادوا من مناخات الحرية الاقتصادية وفسحات المبادرة الفردية. ومنذ ذلك الوقت ولبنان نافذة وباب: يستفيد من الاقتصاد السوري «الموازي» ويفيد عشرات آلاف العمال. لكنها علاقة خاضعة لنظام الفوضى والاستنساب والتأويل. وعندما تغير سورية في قواعدها الاقتصادية وتنفتح امامها اسواق اوروبا الكبرى كما يفترض، لن يعود لبنان يشكل بالنسبة اليها سوى مطل صغير. فالآن مثلا تستورد ايطاليا الزيت من سورية وتعيد تصديره على انه الزيت الايطالي الصافي. وكانت ايطاليا تستورد القمح السوري كله لتصنع منه افضل معجناتها. وعندما كان يقال ان سورية هي صومعة غلال روما القديمة فالحقيقة انها كانت صومعة غلال روما الحديثة ايضا.

الطريق شاق وطويل. وفي يدي دمشق وحدها قرار اختصاره. فالتغيير يتطلب الوقت. والتحديث يتطلب التأني لعدم الوقوع في الخطأ. والتأهيل لا يتم في ايام. ولكن ايضا لا بد لكل طريق من بداية. والمؤتمر الاقتصادي في «الدورشستر» كان على ما اعتقد افتتاحا لمشروع تحديثي واسع. فقد اعلنت سورية من عاصمة العالم الاقتصادية، وليس من دمشق، ان عصرا جديدا قد بدأ في الطريق الى الكفاية والازدهار.