الثقافة و المثاقفة

TT

من أكثر الكلمات شيوعا في لغتنا السياسية والفكرية كلمة «المثقفون». ولكنها بعين الوقت من اصعب الكلمات على المترجمين. فليس لها ما يقابلها في اللغة الانجليزية ومعظم اللغات الاوروبية. وهو ما يدل على ان الاوروبيين ناس غير مثقفين، وإلا لوضعوا لها كلمة. نحن عندنا هذه الكلمة لأننا ناس مثقفون. وقع في هذا المطب أحد الزملاء المترجمين في بريطانيا. كان يترجم لأحد الزعماء العرب عند التقائه بمرغريت ثاتشر عندما كانت رئيسة وزراء. سألته عمن يريد ان يلتقي به في بريطانيا. فقال لها إنه يرغب بملاقاة بعض المثقفين الانجليز. وقع الزميل المترجم في المأزق. ولكن الليدي ثاتشر أدركت ما يعنيه. فقالت: آسفة لا يوجد عندنا في بريطانيا مثل هؤلاء الناس. لا يوجد مثقفون انجليز. المعروف عن الليدي ثاتشر تمسكها بالوطنية وعز عليها ان ترى بلدها مرتعا للمثقفين. فالانجليز ينظرون نظرة شك وريبة نحو الثقافة . ولا يكدر صفو المرأة الانجليزية شيء اكثر من ان تسمع بأن ابنتها اخذت تعاشر رجلا مثقفا. ونصيحتي لكل من يصبو للعمل في بريطانيا هي ان يبذل قصاراه للتستر على ما قد يحمله من ثقافة وعدم إظهار اي شيء منها عند المقابلة.

عشت على الترجمة لسنوات طويلة واشتريت بيتي وسيارتي وتزوجت من عوائدها. ولكنني سأموت وانا لا اعرف كيف اترجم كلمة مثقف. بيد ان نظري وقع أخيرا على ما كتبه الناقد الانجليزي لوك جننغز عن مسرحية باسودوبل «الطينية». اعطيها هذه الصفة لأنها تقوم على الطين. فالمسرح والديكورات وكل شيء مغطى بطبقة كثيفة من الطين اللين. يدخل الممثلون فلا يقولون شيئا او يفعلون شيئا غير التقاذف بالطين بما يقع الكثير منه على المتفرجين في مقدمة القاعة. اضطر بعضهم الى التقاط ما وقع عليه من الطين وقذفه على الممثلين فوق المسرح. حار السيد الناقد في وصف هذا النفر من الناس الذين يدفعون خمسين باوندا لمجرد ان يتلقوا سيلا من الطين والوحل يتساقط على اوجههم وثيابهم كعمل مسرحي! لكن الوحي جاءه اخيرا، فاستورد كلمة من اللغة الاسبانية في وصفهم. إنهم الكلتورستاس culturstas . هذه بالضبط الكلمة التي توازي كلمتنا «المثقفون» عندنا. والاسبان يستعملونها لأنهم من نسلنا ودمنا. ومثقفوهم مثل مثقفينا مستعدون لتلقي الاوحال والتعامل بالأوساخ باسم الثقافة.

رجعت الى القاموس لأستقصي المعنى الكامل للثقافة ففهمت من معلمنا بطرس البستاني انها تعني ايضا الخصام والمخاصمة. تقول ثاقفه بمعنى عاركه وخاصمه. وهذا بالضبط المفهوم في الثقافة العربية من الثقافة، فلا شأن لأصحابها غير مخاصمة بعضهم البعض التي وصلت في السنين الاخيرة حدّ الضرب والقتل والتصفية. فلو حللنا مثلا ما يجري في العراق الآن لوجدنا ان جل ما يقع فيه من التقتيل والارهاب يعود للمثقفين. الجهلة طبعا هم الذين يقومون بالعمل، ولكن من علمهم وعبأهم وسلحهم وأقنعهم أن ما يرتكبونه من الشنائع هو لمصلحة الوطن والدين غير المثقفين؟