نجمة الهلال الخصيب أصبحت جزيرة شيوعية!

TT

في تطور بدا وكأنه سباحة ضد تيار حركة التاريخ ومعاكس لها، فاز الحزب الشيوعي القبرصي «اخيل» في الانتخابات الرئاسية القبرصية التي جرت في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، وأصبح ديمتريس خريستوفياس رئيسا لهذه الجزيرة التي اعتبرها مؤسس وزعيم الحزب القومي الاجتماعي السوري انطون سعادة نجمة الهلال الخصيب، والتي بقيت عبر التاريخ مرتبطة بتطورات سوريا الكبرى وبوابة للغرب نحو الشرق الاوسط تجارة وغزوا عسكريا على غرار ما جرى خلال حرب السويس (العدوان الثلاثي)، وقبل ذلك ما جرى خلال الحروب الصليبية التي اطلق عليها المؤرخون العرب اسم حروب الفرنجة.

إنها مفارقة ان يتم ان لم يكن في اليوم ذاته، ففي الاسبوع نفسه، الذي انتخب فيه قائد الحزب الشيوعي القبرصي رئيسا للجزء الاكبر من هذه الجزيرة المقسمة منذ عام 1974 في انتخابات حرة ديموقراطية كان نصيبه فيها أمام منافسه اليميني 46.64 في المائة، انتقال السلطة من الشيوعي فيدل كاسترو الى شقيقه الشيوعي كذلك راؤول وبالطريقة الشيوعية التقليدية اياها حيث الشعب محيد تماما وحيث الجمعية الوطنية المنتخبة بالتعيين وعلى اساس الولاء للقائد الأوحد تعين قائد اركان معينا سلفا من قبل أخيه وقرة عينه الذي حكم تلك الجزيرة البعيدة لأقل من نصف قرن بعام واحد فقط.

لم يبق من الشيوعية العالمية الا ما يشبه بقايا الوشم في ظاهر اليد فالاتحاد السوفياتي عندما انهار تبعته كل دول المعسكر الاشتراكي وكل احزاب وتنظيمات المنظومة الاشتراكية، وها هي كوبا تعيش لحظة النزع الاخير بينما كوريا الشمالية تحت قيادة الرفيق المحبوب كيم جونغ ايل تتضور جوعا وبينما فيتنام تمد يدا مفتوحة لـ«اليانكي» الذي هزمته، كما هزمت فرنسا قبله، لكنه يستقبلها بممانعة وعجرفة.

ولذلك، فانه أكثر من مستغرب ان يأتي الرد على الهزيمة التاريخية للشيوعية العالمية من قبل هذه الجزيرة الصغيرة المرشومة بالقواعد الاميركية والبريطانية والتي تقع فوق ذروة جبلها «تروديس»، اهم محطة تنصت للولايات المتحدة ربما في العالم كله، ومن قبل «حزيب» شيوعي كان عندما كان هناك اتحاد سوفياتي وكانت هناك منظومة اشتراكية لا يشكل سوى نقطة صغيرة في بحر كبير يمتد من كوبا في الغرب وحتى كوريا الشمالية في الشرق مرورا بأحزاب اوروبا التابعة لموسكو، وكان اهمها الحزب الشيوعي الايطالي الذي استند الى سمعة وتراث قائده الشهير غرامشي للوصول الى ما وصل اليه.

حتى الشيوعية الصينية، شيوعية ماوتسي تونغ وعصابة الاربعة، لم تعد تلك الشيوعية الحمراء المتوترة السابقة فقد انتزعها دينغ سياو بينغ من جمودها المقيت السابق وجعلها تتكيف مع وقائع العصر فأصبح اقتصادها يخضع لحركة الاسواق العالمية وغدت تبتعد كثيرا عن نظريات انجلز وكارل ماركس ولينين، وبالتالي فقد غدا تطاولا على الحقائق القائمة وصفها بأنها دولة شيوعية وفقا لمواصفات الشيوعية التقليدية.

وهنا، فان ما يجب قوله هو ان الحزب الشيوعي القبرصي (اخيل) استطاع التكيف وبسرعة مع واقع ووقائع ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وهو بالأساس كان يمارس الشيوعية بأساليب واقعية وعقلانية، وعلى سبيل المثال فانه لم يفعل ما فعلته الاحزاب الشيوعية في الدول العربية القريبة ويعلن حروبا كلامية ضد اميركا والإمبريالية العالمية، وهو كان يعرف ولا يزال ان القبارصة اليونانيين يريدون القواعد الاميركية والبريطانية في جزيرتهم لأنها تشكل حماية لهم ولبلدهم مما يعتبرونه اطماعا تركية لا تزال توجد على ارضهم منذ عام 1974.

ان واقعية الحزب الشيوعي القبرصي (اخيل) جعلت ديمتريس خريستوفياس يقول بعد فوزه في انتخابات رئاسة الجمهورية مباشرة انه يريد لقاء قائد القبارصة الاتراك محمد علي طلعت «انني اريد توجيه رسالة صداقة الى القبارصة الاتراك بأننا معهم في خندق واحد لإعادة توحيد وطننا ولنتمكن من إدارة امورنا بأنفسنا بعيدا عن التدخلات الخارجية». والمعروف ان القبارصة اليونانيين بتأثير الاحزاب اليمينية القبرصية كانوا قد صوتوا بنسبة 76 % عام 2004 ضد مشروع الامم المتحدة لإعادة توحيد الجزيرة، في حين وافق عليه القبارصة الاتراك في شمال هذه الجزيرة المجزأة بنسبة كاسحة.

في كل الأحوال، فربما ان ما هو غير معروف للكثيرين هو ان انطون سعادة لم يبتعد لا عن حقائق التاريخ ولا عن استحقاقات الجغرافيا عندما وصف هذه الجزيرة بأنها نجمة الهلال الخصيب، فهي تشكل جزءاً من سورية الكبرى أكثر مما تشكل جزءا من أوروبا أو تركيا أو اليونان، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة ان معاوية بن ابي سفيان عندما كان واليا على بلاد الشام وجه رسالة للخليفة العادل عمر بن الخطاب لإقناعه بغزو قبرص بحرا قال فيها ان أهل بانياس على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط يسمعون صياح ديكتها عند الفجر عندما يكون السكون مخيما والأجواء هادئة.

وجاء في وقائع التاريخ ان شقيقة حليمة السعدية مرضعة النبي، جاءت الى الرسول ذات صباح باكر، وقالت له، يا رسول الله لقد رأيت في المنام كما يرى النائم انني اعبر اليم معكم، فقال صلوات الله عليه وسلامه: «ابشري بالفتح يا أم حرام».. ويقال ان معاوية بن ابي سفيان قد جاء بها وقد أصبحت في أواخر خريف العمر لترافق أول غزو بحري اسلامي، وأنها انتقلت الى رحمة ربها بمجرد وصولها الى البر القبرصي، وهناك الآن الى الغرب من مطار لارنكا بنحو ثلاثة كيلومترات مسجد كان المسلمون قد بنوه فوق قبرها، وهو يضم ايضا قبر احدى زوجات الشريف حسين بن علي، مفجر الثورة العربية الكبرى، والتي وافتها المنية عندما كان هو يعيش مع بعض افراد عائلته في مدينة ليماسول القبرصية.

ويقال ايضا ان هذا المسجد، الذي اصبح يعاني من الاهمال بعد انقسام الجزيرة عام 1974، ونزوح المسلمين الاتراك الى الجزء الشمالي من هذه الجزيرة ليقيموا دولتهم القائمة الآن هناك، يحتوي على رفات شهيدين قتلا غيلة عندما كانا يحرسان منطقة «الأكروبوليس» في أثينا ابان الاحتلال التركي لليونان، ويقال ان دمهما الذي سال على الأرضية الرخامية لهذه المنطقة رسم شكل هلال، وان هذا هو الذي جعل الدولة العثمانية ترفع الأهلة فوق مساجد الديار الاسلامية التي كانت تابعة لهذه الدولة او جزءاً منها.

والمهم ان نجمة الهلال الخصيب التي اصبحت تحت الحكم الشيوعي، في انتخابات حرة ديموقراطية، لعبت دورا رئيسا خلال الحرب الاهلية اللبنانية الأخيرة، فهي كانت البوابة الوحيدة للمقاومة الفلسطينية وحليفتها الحركة الوطنية اللبنانية خلال الحصار الذي فرض عليهما في منتصف سبعينات القرن الماضي من قبل سوريا واسرائيل معاً، وكانت المنفذ الوحيد لمسيحيي المنطقة الشرقية من بيروت عندما اشتد الحصار عشية هذه الحرب وبعد ذلك.

لقد اضطر ياسر عرفات ان يأتي الى لارنكا في قبرص متخفيا في زي رجل مدني ومنتحلا صفة دبلوماسي جزائري لينقل من هناك للالتحاق بقواته المحاصرة في طرابلس في الشمال اللبناني، ولقد كانت هذه الجزيرة جسر امداد فلسطيني لقوات منظمة التحرير التي كانت تقاتل في مخيمات بيروت ومخيمات شمال لبنان. والواضح ان الجزيرة القبرصية قد تعود الى مركز الضوء مرة اخرى اذا تجاوزت الازمة اللبنانية المستفحلة الحدود التي وصلت اليها وتحولت الى حرب أهلية على غرار الحرب السابقة ولكن بتحالفات جديدة غير تحالفات تلك الفترة.

ان هذه هي قبرص التي اخذت اسمها من مناجم النحاس التي كانت اكتشفت قبل فجر التاريخ، والتي ربما انها هي التي جعلت المسلمين يتوجهون في اول غزو بحري الى هذه الجزيرة التي تقول الاسطورة اليونانية ان «افروديت» رمز الجمال قد خلقت من زبد أمواج البحر المرتطمة بصخرة لا تزال قائمة هناك بمحاذاة الطريق الموصل من ليماسول الى بافوس، ولعل ما يحمل معانيَّ كثيرة ان المطران مكاريوس الذي كان اول رئيس استقلالي قبرصي أوصى قبل وفاته بأن يدفن في اعلى نقطة في جبال ترودوس الشاهقة وان تكون بوابة قبره نحو الغرب وان تكون له نافذة في اتجاه الشرق.