أبعاد تعيين سفير مدريد في الرباط رئيسا للمخابرات الإسبانية

TT

يأتي تعيين السفير الإسباني السابق لدى المغرب، خورخي ديثكاليار، على رأس جهاز المخابرات في بلاده، ليبرز نقطتين، الأولى تولي رجل مدني لتسيير جهاز كان حتى الآن بيد جنرال وتابعا لوزارة الدفاع، والثانية المركز الذي تحتله سفارة الرباط في الهيكلة الدبلوماسية الإسبانية.

حينما انشئ «المركز العالي للمعلومات للدفاع» وهذا هو الاسم الرسمي للجهاز، في سنة 1977، وإسبانيا على عتبة تكريس توجهها الديموقراطي، تمت صياغته على النحو الكلاسيكي المعروف، كجهاز في خدمة الأمن الخارجي للدولة، وبالتالي تحت تصرف الجيش. كان قطاعا محفوظا، له اليد الطولى في جمع وتحليل المعلومات الحساسة الضرورية للدولة في مجالي الخارجية والدفاع. وفرضت طبيعة الأمور السائدة في المرحلة الانتقالية ترك ذلك القطاع في يد الجيش. وكانت في الحكم إذاك حكومة وسط يمين. لكن بعد الانتخابات، تركت مكانها لحكومة وسط يسار بقيادة الحزب الاشتراكي.

وتعايشت الحكومة اليسارية مع الجهاز بثقافته الموروثة وبآلياته الكلاسيكية. وتم في ظروف قلقة تدبير تعقيدات الفترة الانتقالية بمساعدة جنرالات متنورين، مثل ميلياضو ودييث أليغريا، كانوا يتفاعلون بإيجابية مع المناخ الجديد الذي دخلت فيه اسبانيا، على غرار مرؤوسيهم من الضباط الشبان، الذين كانت لهم حساسية مختلفة، عن الضباط الكبار في السن والرتبة، الذين عاشوا الحرب الأهلية إلى جانب الدكتاتور فرانكو. وكان الحدث الفاصل في تكريس الانصياع إلى ضرورات إقامة ديموقراطيا سوية «مثل ما هو الحال في سائر أوربا»، هو فشل المحاولة الانقلابية الفاشلة في ليلة 23 فبراير (شباط) 1981، حينما انبرى الملك خوان كارلوس، وهو يرتدي بزته العسكرية، كقائد أعلى للجيش، ليأمر القوات المسلحة بالعودة إلى الثكنات.

وكانت المخاوف التي أثارتها تلك المحاولة الانقلابية هي التي ضغطت بقوة لصالح الحزب الاشتراكي فوجهت الناخبين إلى جانبه، لانهاء القطيعة مع العهد السابق، وتكريس نظام ديموقراطي سوي. فكان ما كان.

وإلى حد ما تعايش الحزب الاشتراكي مع «التجاوزات» التي ظل جهاز المخابرات يستمرئها، وأصيب الحزب بشرر من تصرفات «لاكاصا» أي الدار، وهو الاسم الدارج على الألسن وفي الصحافة، لجهاز المخابرات الذي ظل دارا منطوية على عقليتها، وطرق عمل أهلها. ووصلت الممارسات المتجاوزة الحد، إلى قمتها في قضية «الغال» لدى تشكيل فرق غير قانونية، لقتل وملاحقة انفصاليي منظمة «ايطا» الباسكية، وهي القضية التي وصلت إلى القضاء، وبسببها يرقد في السجن حاليا مسؤولان من الحزب الاشتراكي، وزير داخلية سابق ومعاون مقرب له، لضلوعهما في تشكيل تلك الفرق اللاقانونية، لتصفية ارهابيي «ايطا».

وحينما خاض أثنار الحملة الانتخابية التي قادته إلى الفوز ثانية برئاسة الحكومة، جعل على رأس الوعود الانتخابية إصلاح «لاكاصا»، التي كانت قد أيقظت الكثير من القيل والقال بشأن تصرفاتها، من أثر الفضائح المالية، والخلل الذي ظهر في ممارستها المتناقضة مع ما هو متعارف عليه في نظام ديموقراطي. وقر عزم أثنار على التصدي لتقويم الاعوجاج في «لاكاصا»، وبالخصوص لانهاء وضع دولة داخل دولة الذي اكتسبته المخابرات.

وربما أسعفته أرومته اليمينية على الإقدام على اجراء عملية جراحية للدار المحصنة، بدون أن تكون هناك شبهة مع الجيش. وأصبح معروفا منذ مدة أن موعد الاصلاح هو تاريخ نهاية مهمة الجنرال كالديرون في 26 يونيو (حزيران) .2001 وفي فبراير (شباط) الماضي فتح نقاش في البرلمان، حول ضرورة اصلاح جهاز المخابرات. وكانت تدخلات اليسار الموحد، عالية النبرة، ولكن الحزب الاشتراكي لم يشارك في التشنيع على «لاكاصا»، وفضل أن يدخل في حوار مع الحزب الشعبي الحاكم، على ضرورة تحضير الإصلاح في هدوء وتفاهم. وتم فعلا ترتيب زيارة مشتركة لنواب من الحزبين الى «لاكاصا» لبدء تكوين مقاربة مشتركة بين حزب الأغلبية والحزب الرئيسي في المعارضة، بشأن تحضير الاصلاح. وحينما أعلن أن الرئيس أثنار قر عزمه على تعيين رجل مدني على رأس الجهاز خلفا للجنرال كالديرون، اتضح أن الأمر يتعلق ببداية إصلاح عميق. وحينما برز اسم السفير ديثكاليار، تأكد أن الاصلاح يتم بتوافق بين الحزبين الكبيرين. ان اهمية ما يحدث تكمن في ترويض جهاز معتد بفعالية أساليبه، ليعتاد على قواعد العمل في ظل الديموقراطيا.

وقد رحبت صحافة اليمين واليسار معا بتعيين ديثكاليار الذي ارتقى إلى منصب مدير عام في الخارجية، في عهد الاشتراكيين، وعين في سفارة الرباط، وهي ما هي، على يد اليمينيين. وأبرز كل من تناول الموضوع أن الرجل ينتظره شغل كثير، لأن الأمر لا يتعلق فقط بالتسيير، بل بتجديد الهياكل، مع التنسيق بين كل أدوات المخابرات، الجيش والدرك والشرطة. ومع أن الجنرال كالديرون كان قد بدأ اصلاحا مترددا في الجهاز، فإن أثنار لا ينسى له أنه ورطه في الدفاع عن مجموعة إجراءات «واجهاتية» اتخذها الجنرال في 1996، وقدمها على أنها بداية تطهير، ولكن تبين في ما بعد أن الأمر لم يتناول سوى دزينة من صغار الاطر. وظل الجهاز غير قادر على أن يدافع عن نفسه إزاء ما ذكر في البرلمان مرارا، عن التنصت غير القانوني على المكالمات الهاتفية لبعض السياسيين، ومن ذلك التنصت على مقر حزب هيري باتاسونا الانفصالي الباسكي، وعن فضائح مالية، وعن الأسئلة التي حامت حول الجنرال كالديرون نفسه، بسبب دوره المشبوه ليلة 23 فبراير .1981 وظل مطلوبا أن يكون جهاز المخابرات، تحت الإشراف السياسي المدني، وأن يتصرف في دائرة القانون. ويتجاوب مع هذا أن الرئيس أثنار، فضلا عن إسناد المنصب إلى مدني، وقع عليه الاجماع، قرر أن يحمل رئيس الجهاز صفة حكومية، ليتأتى له أن يمثل أمام البرلمان ويعطي الحساب للنواب، عن سير إدارته وكيفية إنفاق الأموال العمومية المعتمدة لهذا المرفق. وهكذا تم إسناد رتبة كاتب دولة (في المشرق، وزير دولة) للرئيس الجديد للجهاز. وتم تنصيب الوزير الجديد في مراسم تمت بمقر رئاسة الحكومة، وليس في وزارة الدفاع. وذلك امعانا في اضفاء الصفة المدنية والسياسية على الجهاز، الذي عليه أن يتطور نحو مزيد من الشفافية القانونية والسياسية، بالقدر الممكن في هذه الحالات، إذ أن ديثكاليار كما قالت «إيل باييس» في عدد الأحد الماضي، عليه أن يسن قواعد واضحة لجهاز هو بطبيعته يعمل تحت الأرض. عرف ديثكاليار إلى جانب مقدرته الديبلوماسية، بأنه مثال للديبلوماسيا الإسبانية الشابة التي تمرست بالخبرة، وتعاملت بحرفية عالية مع ملفات دقيقة جابهتها إسبانيا وهي تحقق أكبر ثورة ديموقراطية في القرن العشرين، لم تسل فيها نقطة دم واحدة، وفي نفس الوقت أسعفها الحظ بأن ترتقي بمقاييس البنك الدولي إلى مرتبة رابع عشر اقتصاد في العالم. يبلغ خورخي ديثكاليار 55 سنة. ومنذ ما لايقل عن 15 سنة وهو يتقلب في مناصب قيادية في وزارة الخارجية الإسبانية. ومنذ 11 سنة كان هو المنسق العام لمؤتمر مدريد الذي جمع الأطراف المعنية بنزاع الشرق الأوسط، بعد طول خبرة بملفات المنطقة حيث كان مدير الشرق الأوسط وشمال افريقيا، قبل أن يتولى الادارة العامة للشؤون السياسية.

وقد حاضر وكتب في موضوعات الساعة المتصلة بالمنطقة، وأبان عن تفهم عميق لطبيعة تلك الموضوعات. وحينما كان الغرب منغمرا في التهجم على الإسلام كمصدر خطير للتطرف، كتب مقالا عن الأزمة الجزائرية، مفندا أن يكون الإسلام هو المحرك. وكتب مقالا نشره في «إيل موندو» في 12 مارس (اذار) 1998 أوضح فيه أن ما يجري في الجزائر هو حرب أهلية، وكما هو الشأن في كل الحروب فإن الضحية الأولى هي الحقيقة. والحقيقة هي أن الدين إنما هو أداة مستعملة. ولا يتعلق الأمر بحرب دينية، إن الدين ليس هو الذي يقتل. ونقل النقاش إلى المجال الديني هو مجرد فخ. إن شعبوية «الفيس»، قد حلت محل شعبوية لائكية لجبهة التحرير. ولا حل الا بحوار يشارك فيه الجميع، بدون استثناء الاسلاميين، ليتاح تقاسم المسؤولية بين الجميع.

وكان وهو سفير لدى المغرب، يتردد على الجامعات، كما كان شأنه في إسبانيا. وفي محاضرة له في جامعة بلنسية فند أن يكون هناك أي خطر عسكري على إسبانيا من جهة الجنوب، مواجها بذلك مقولة شائعة تتكرر مرارا في اسبانيا. ان مؤهلاته المهنية ومزاياه كمثقف، وخبرته بالموضوعات المتوسطية، هي التي أهلته لترؤس سفارة بلاده بالرباط، وهو منصب أثير في الخارجية الإسبانية. فمن الرباط، حيث كان وزيرا مفوضا، ارتقى ميغيل آنخيل موراتينوس إلى حيث هو الآن كمبعوث أوربي للشرق الأوسط. ومن الرباط، حيث كان سفيرا، تولى أنطونيو غاميرو وزارة الإعلام في حكومة أضولفو صواريث، التي أمنت الانتقال الديموقراطي، وكان أول وزير إعلام في إسبانيا ودعه الصحافيون حينما غادر الوزارة بحفلة مفعمة بمشاعر حارة. وكثير من الدبلوماسيين من الصف الثاني في سفارة إسبانيا بالرباط، ينتقلون فورا إلى المناصب الاولى على رأس سفارات لامعة في السلك الإسباني. يمكن القول ان سفارة الرباط بالنسبة للسلك الإسباني مختبر للكفاءات، لأن السياسة المغربية لإسبانيا هي في حد ذاتها ملف دقيق ومعقد. وفضلا عن هذا فلم يفت جرائد مغربية، أن تشير بالمناسبة إلى أهمية عمل المخابرات الإسبانية في الساحة المغربية. وذكر ان أكبر شبكة تجسسية لإسبانيا في الخارج توجد بالمغرب. وغير معروف حجم الشبكة المغربية في إسبانيا، ولكنها لن تكون إلا أقل من غريمتها. ان مراهنات كل طرف مختلفة عن الآخر. ومن دون شك أن الشبكة الإسبانية في المغرب، لم تتحرر بعد من الثقافة العتيقة السائدة في جهاز مخابرات للدولة الاستعمارية سابقا، وهي من صنع ضباط الشؤون الأهلية في ما مضى، وأضيفت اليها انشغالات جديدة يصنعها السباق الذي يؤرق الإسبانيين في الساحة المغربية، مع دول أكبر لها مصالح كبيرة، والتزامات متشعبة، ومركز متين.