ولكنه اختلاط الأوراق .. يا سيدي

TT

«لقد آن الأوان لإلغاء عقوبة الإعدام، والاتحاد الأوروبي سيكرس كل جهده لتحويل مشروع القرار الذي طرحه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليصبح قانوناً ملزماً يدعو فيه الدول الأعضاء إلى اسقاط عقوبة الإعدام باعتبارها انتهاكاً لحقوق الإنسان».

بهذه الكلمات، هاتفني زميل لي، فقد جاء صوته واثقاً عبر أسلاك الهاتف، فهو للتو قدم من فرنسا، حيث استضافت احدى مدنها (سترازبور) مؤتمراً دولياً للمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، هذا الزميل الانجليزي باحث وناشط في مجال حقوق الانسان، وله اهتمامات حول هذه القضايا، لا سيما ان اطروحته للدكتوراه تتعرض لجوانب متعددة في ما يتعلق بمزايا إلغاء عقوبة الإعدام على أن ثقته كان لها ما يبررها، فيبدو أن ما دار في أجواء المؤتمر الذي نظمته منظمات وهيئات ولجان غير رسمية، ساهم في خلق تفاؤل لديه بشأن إلغاء هذه العقوبة.

وعلى الرغم من أنني اتفق مع الزميل في كثير من الآراء، وأتماهى معه في عدد من المواقف والقضايا، كوننا ندعو إلى حماية حقوق الإنسان، إلا أنني اختلف معه في الزاوية التي ننظر منها إلى الأشياء، وبالتأكيد هذه القضية من تلك الاشياء التي تحتاج إلى مزيد من القدرة في الفهم والاستيعاب، هذا الصديق واجهني بسلاح الفكر، مذكراً إياي بما قلته له من قبل حول مفهوم (التغير) واستناداً إلى ذلك، فإنه يمكن التنبؤ بالغاء هذه العقوبة من منظور عدم ثبات الأشياء على أن كلامه يحمل الكثير من الصحة، ومع ذلك تبقى مسألة الفهم أمرا غير يسير، فما قلته تمثل في أن الطرح الفلسفي إذا ما ارتهن للتحليل حول أية قضية ومفاهيمها، إنما يفسر ان ثمة تحولاً قد نشأ بين حقبة وأخرى، أي أنه لا يشترط ثبات المفاهيم كما هو متصور لها، ولا يجب أن يكون كذلك.

بمعنى أنه لا يمكن أن تستقر مفاهيم معينة وما تحتويه من معان، بشكل ديمومي (باستثناء المفاهيم الدينية الثابتة، لقدسيتها ولإيمان الناس بها)، فالزمان والمكان هما الركيزان لحركة التاريخ، وبالتالي التغير والتحول.. أي ان الثبات لا يعرفه التاريخ (بالمفهوم الشامل)، وطالما كان هنالك تغير وتحول فإن الملامح لن تكون كتلك (التي كانت)، ولك أن تضرب ما تشاء من الأمثلة، انظر مرحلة الطفل ونموه، وتحولاته وتفاعلاته على مر السنين، تأمل شكل الأشياء وتأثير الزمن على قيمتها (المعنوية) وحالتها (المادية)، وان خرجت إلى دائرة الفكر والعقل، فانظر في نفسك، ولك أن تحكم، كيف كانت رؤيتك ونظرتك إلى الأشياء قبل أعوام مقارنا بها حالتك الآن؟ تأمل احكامك السابقة واللاحقة وحللها في سياق نموك الفكري المتدرج والمتغير في آن.. فلو كنت في الخمسين من عمرك، فهل أحلامك الآنية (على افتراض أن لديك احلاماً) تتطابق مع تلك التي عشتها وانت في العشرين؟! ولا تذهب بعيدا، حتى الكون رغم ثباته، فهو غير ثابت في سيرورته! فالخسوف والكسوف والزلازل والبراكين اشارات إلى حقيقة التغير، وبالتالي عدم الثبات (بمفهومه الواسع) ويمكن لنا أن نستمر في طرح الأسئلة على هذا المنوال، ونخرج بأمثلة متعددة، ومن هنا نصل إلى الحقيقة الماثلة في ثبات التغير (كحالة وجود)، بمعنى أن مفهوم حقيقة تغير الأشياء بات (ثابتاً) ان جاز التعبير، وبسبب هذا المعيار، وبتركيبة هذا المفهوم، اراد زميلي ان يمنطق صحة حدسه (هذا إن صح حدسه) بإلغاء عقوبة الإعدام في الوقت القريب بناء على حديثي معه من قبل حول مفهوم التغير لم أقبل عملية الاسقاط التي قام بها، الأمر الذي دفعني إلى أن أقول له: سأؤيدك لو طالبت بإلغاء هذه العقوبة في أمريكا، ولكنني سأقف ضدك بالتأكيد لو كانت السعودية محل أمريكا. فكان من الطبيعي أن يتهمني بالتحيز والتناقض و(عدم الثبات)! فتبادر إلى ذهني ـ على الفور ـ مسألة الفهم والاستيعاب وقدرة الإنسان ثم اردفت قائلا: ان السبب يعود إلى فكرتي المرجعية والآلية وأعني بهذا مرجعية القوانين والأنظمة، وآلية العقوبة ومدى صحتها ودقتها.

فالقوانين الأمريكية ترتهن إلى النشأة الوضعية (الإنسان) في حين أن الأنظمة السعودية، ترتكز على النص الإلهي (الخالق عز وجل) وبالتالي أن المرجعية لكلا البلدين تختلف اختلافا كليا، ناهيك عن الآلية وظروفها، ففي دولة كالولايات المتحدة الأمريكية عادة، ما تلعب هيئة المحلفين دوراً رئيسياً في إدانة متهم تكون عقوبته الإعدام، في حين ان هذه العقوبة، وفي دولة كالسعودية لا تأخذ مكانها بالتطبيق الا بعد دراسة القضية من قبل (13) قاضياً، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى تجد أن عقوبة الاعدام في الولايات المتحدة يتم تطبيقها فقط في بعض الولايات، بعد أن تداركت المحكمة الدستورية قرارها عام 1973 بإلغاء العقوبة، لتعطي لكل ولاية الحرية في اتخاذ القرار المناسب بشأن تطبيق هذه العقوبة أو إيقاف العمل بها، مما يكرس حقيقة (مفهوم المرجعية) التي تحدد المفصل الجذري في المنشأ العقائدي والفكري لهذه الثقافة أو تلك، فالعقلية الغربية ترى وجوب الفصل ما بين الدين والدولة (العلمانية)، في حين ان المسلمين (السعوديين تحديداً) يرون ان ليس ثمة انفصال بينهما، فالدين يشمل (الكل) والدولة جزء ينتمي إلى هذا (الكل)، ولذلك نخلص من هذا بالقول ان المرجعية الالهية (النص القرآني) تختلف عن المرجعية الوضعية (الفعل الإنساني).

وفي هذا تقول كاتبة إنجليزية (كارين ارمسترونغ) في كتابها الذي صدر مؤخراً والمعنون بـ (موجز في تاريخ الإسلام) «لم يسأ فهم دين في التاريخ المعاصر كما أُسيء فهم الدين الإسلامي..» وترى أن «القرآن الكريم منح المسلمين مهمة تاريخية، تتمثل في خلق مجتمع عادل يحظى كل أفراده بنفس القدر من القيمة والاحترام، وان خبرة تأسيس مثل هذا المجتمع والعيش فيه منحت المسلمين جوهر الحياة الدينية وهذا يعني ان شؤون الدولة لا تنفصل عن الشؤون الروحية عند المسلمين» وفي حديثها عن العالم الغربي وفصله الدين عن السياسة تقول بأن «هذه النزعة الدنيوية، اتخذت من قبل فلاسفة عصر التنوير كأساس لتحرير الدين من فساد شؤون الدولة وتركه ليكون ذاته وأن يبقى أكثر صدقاً من أي شيء آخر».

وعلى ذلك يمكن القول ما ذكرناه سابقا من أن (الثوابت) في المجتمعات الإسلامية، لا سيما تلك التي تطبق الشريعة في شتى مجالاتها (كالسعودية) على سبيل المثال، تجدها واضحة، فهي تستند إلى الثابت (القرآن والسنة) وتحاول ان تتعصرن مع الجديد، فتضيف إليها مكتسبات محاولة قدر الإمكان عدم تعارضها مع الثابت، في حين أن المجتمعات الغربية لا تعرف إلا المكتسب (بسبب المرجعية) ولا تعطي اهتماماً للثابت (الاديان) فيضعف أو يكاد يتلاشى، أو ربما يطرأ عليه شيء من التجديد والتغيير (من باب التحديث) وبالتالي يفقد أو فقد ـ فعلاً ـ قيمة الثبات. والمقام هنا ليس للهجوم أو الانتقاد أو التقليل من قيمة الآخرين وطبيعة اختياراتهم بقدر ما هو محاولة لتكريس مفهوم اختلاف المرجعيات، وبالتالي عدم تطابق إفرازاتها ونتائجها.

مضيت في إرهاق زميلي عله يعترف بالهزيمة والعجز أمامي، مؤكدا له عما أكنه من إعجاب لتركيبة النظام الغربي الذي يمتلك ميزة التوازن، وأعني بهذا طبيعة النظام المؤسسي واستقلالية السلطات والنزوع إلى الشفافية والمكاشفة في ظل نظام مُقنن، إلا أن هذا لا يعني أن الغرب يمتلك الحقيقة دون الآخرين حيث (فكر الوصاية) وان التميز الذي يعيشه يجب ألا يعطيه ذلك الإحساس الذي يشعره بالفوقية ويجعله يعيش حالة من الشوفينية الممقوتة، وتحضرني هنا عبارة للأمير عبد الله بن عبد العزيز حول الحوار بين الحضارات ألقاها في هيئة الأمم المتحدة، حيث يقول (إن هذه الحقوق (حقوق الإنسان) والمبادئ توجد في أعماق كل الحضارات، لا يصح النظر إليها بمعزل عن الحضارة التي نشأت منها، كما أنه من الصعب أن نفرض على إنسان أو مجتمع مفاهيم ترفضها مبادئه وأخلاقه).

وما قاله الأمير يعالج قضية ما زالت غير واضحة المعالم في العقلية الغربية، لأن الغرب قد يطرح أفكاراً تنويرية، وهذا من حيث المبدأ شيء جميل ومقبول، إلا أن المشكلة تحدث حينما لا يقدر على التمييز في نوعية الطروحات مع المسلمين، أو مع الدول التي تطبق الشريعة تحديداً، فعندما يتعلق الطرح بقضايا تمس العقيدة أو الانتماء والهوية، فإن النتيجة تكون سلبية، فالطرح ليس اقتصادياً أو سياسياً، بل أكبر من ذلك، ويدخل في صميم القناعة الذاتية، ولذلك فقد يجلس السعوديون مع الغرب في نقاش حول كل المسائل، وقد يتفقون، إلا أنه من الاستحالة بمكان أن تكون القضايا الدينية (عقوبة الإعدام مثلا) ذات التأصيل الشرعي والنصوص الصريحة القطعية ـ تحديداً ـ تدخل ضمن هذا النقاش أو ذاك.

وليس من جديد في القول ان «الإعدام» المحدث في الغرب يختلف عن مصطلح «القصاص» الذي أقره الإسلام، فالأخير تأصيله شرعي إلهي محدد بنص صريح وقطعي، بينما الأول وضعي إنساني متغير النصوص والظروف، وبالتالي فدعوى الناشطين في مؤتمر (سترازبور) الفرنسية تتعارض وبشكل صريح مع مبادئ القانون الدولي، التي تعطي الحق السيادي لكل دولة في أن تصوغ نظامها الجنائي والقانوني مع ما يتفق مع أمنها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هذه الدعوى بإلغاء عقوبة الإعدام تتعارض مع مبادئ حماية حقوق الإنسان، إن اتفقنا ـ مبدئيا ـ على حرية اختيار العقيدة، وطالما آمنت بعقيدة ما عن قناعة ورغبة، فهذا يعني أقل ما يعني، تطبيق ما نصت عليه هذه العقيدة من أوامر واجتناب النواهي، والعقوبات من الأوامر التي يجب تطبيقها في حالة توفر شروطها (لو ارتهنا إلى التشريع الجنائي الإسلامي كمثال) ومع هذا فإنني أؤمن بـ (عالمية حقوق الإنسان) وإن اختلفت المرجعية، فبرغم أن الفكر الغربي يرتهن إلى العقلانية في كل شيء، إلا أن الفكر الإسلامي لا يعارض ذلك التوجه طالما لا يتعارض مع حرمة «النص». وهذا ما تكشفه لنا هذه القضية، فتطبيق عقوبة الإعدام تكريس لمفهوم العدالة في ظل المفهوم الإسلامي بينما يرى (البعض) في الغرب انها تنتهك حقوق الإنسان، فالخلاف حول مفهومية (العدالة) النسبي، ولك أن تعود إلى المرجعية لهذا الفكر أو ذاك لتصل إلى فلسفة هذا الطرح وسبب تميزه عن سواه.

وبعد أن استنزفت طاقة زميلي، قلت له مختتماً حديثي: إنني ما زلت متمسكاً بمفهوم التغير، وإن استثنيت المفاهيم الدينية الثابتة، أما المناداة بحماية حقوق الإنسان، فإنه الشعار الذي يستحق أن نعيش من أجله.