سقف النمو بين اليابان والولايات المتحدة نموذجا

TT

في ابريل الماضي كنت أقف في محطة (شيبويا) SHIBOYA في قلب العاصمة اليابانية طوكيو، وقفت أتأمل تمثال كلب من النحاس، تعلقت عيناه ببوابة القدوم والمغادرة وكأنه لا يزال ينتظر قدوم «الأستاذ هاشيكو»، لقد ظل هذا الكلب ينتظر قدوم صاحبه حتى مات فأطلقوا اسمه على أكبر الميادين ازدحاما على وجه الأرض، إذ يمر بها في كل يوم من أربعة الى خمسة ملايين من البشر، وهذا يعطي الدلالة على ان الشعب الياباني شعب يعشق القيم.

أمام تمثال هذا الكلب الوفي، وفي وسط الجموع الغفيرة، ومن بين الاسواق الضخمة كنت أتساءل: هل هناك حدود للنمو لدى الأمم المتقدمة؟ فإذا كان كذلك، فهل بلغت اليابان ذلك الحد، وبدأت تستسلم اليوم للانحدار؟

وإذا كان هذا صحيحا فأين تقع ذروة النمو بالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة الاميركية، وهل ستنحدر أم تتفتت ثم تتلاشى؟ ومتى سيكون ذلك؟

إن سنن التطور تقول: إن لكل أمة سقفا للنمو، فإما ان تتداعى مثل الاتحاد السوفيتي.. أو تنكمش، كما حدث لبريطانيا.. أو تسقط كما جرى للامبراطورية العثمانية.

إن الاختلاف بين الشعبين الاميركي والياباني كبير، وبالتالي فإن سقف النمو بينهما لا شك متفاوت.. فالولايات المتحدة الاميركية، يتشكل نسيجها الاجتماعي من اقليات تنتمي في اصولها الى أعراق مختلفة، وكل فرد من هذه الاقليات يحمل في وجدانه ولاءين، ولاء للأمة التي ينتمي اليها بأصله، وولاء للوطن الذي يعيش فيه.

وهذا ما يؤرق رجال الفكر والسياسة في الادارة الاميركية، ويجعلهم أكثر حرصا على تماسك هذا الكيان، من خلال ربطه بروابط ثقافية وسياسية وقانونية واقتصادية. والمحافظة على تماسك هذا المجتمع، تتم من خلال نهج استراتيجي، يقوم على معطيات أمنية وتظاهرات وهمية.

* كيف تخلق عدوا التظاهرات الوهمية، دفعت بالولايات المتحدة الى صناعة اعداء وهميين كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، عندما قدمت الولايات المتحدة المساعدات الاقتصادية للاتحاد السوفيتي الذي خرج من الحرب منهكا، وهذا ما ساعد على تقويته والدخول معه في حرب باردة، تحت ضمان الاستراتيجية المعروفة باسم UNDER BELLY SOFT وهي سياسة قال بها تشرشل، وتبنى على قاعدة تقول: «إن عليك ان تصنع عدوا بنفسك قبل ان يفرض عليك نفسه شريطة ان تتعرف على مقتله، وأن تكون قادرا على الدوام اصابته دائما في هذا المقتل»، وهو أقرب الشبه بقصر سنمار الذي جعل فيه حجرا لو نزع لانهار القصر.

وبالفعل فعندما وصل الاتحاد السوفيتي الى افغانستان، واقترب من مراكز الطاقة في الخليج العربي وايران، وأوشك على الوصول الى البحار الدافئة عند الشواطئ الباكستانية من خلال «ممر خيبر»، تفجرت الاوضاع هناك، وأصيب الاتحاد السوفيتي في مقتله بمنطقة الشعوب الاسلامية الحاقدة على الشيوعية، الكارهة لها.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي أخذت الولايات المتحدة تبحث عن عدو وهمي تمثل في الارهاب، وتجسد في أشخاص امثال اسامة بن لادن، وصدام حسين وغيرهما، ممن لا ترغب الولايات المتحدة في تصفيتهم، مع انها تملك القدرة على ذلك.

إن وجود هذه الرموز يشكل ضرورة تماسك المجتمع الاميركي، وفيه المبرر الكافي لغرض الضرائب الباهظة.

أما الشعب الياباني فهو شعب متجانس، ينتمي الى أصول واحدة، تتحد في العادات وتتشابه في التقاليد، فهم يختلفون عن الشعب الاميركي، وعن كثير من شعوب العالم.

* المرأة في الثقافة الأميركية واليابانية فإذا نظرنا الى الانسان الاميركي نجده يغتسل كل صباح قبل الخروج الى العمل، أما الياباني فيغتسل عند كل مساء قبل أن يأوي الى فراشه.. والاميركي يسير في طريقه متخذا الجانب الايمن، بينما الياباني نجده في طريقه يسلك المسار الايسر.. والاميركي يقدم المرأة في كل الاحيان لكنه يسخر منها.. أما الياباني فيتقدم على المرأة في معظم الاحيان لكنه يحبها ويحترمها.. الاميركيون يعتقدون ان اصولهم تتحدر من القردة بسبب اعتناقهم لنظرية داروين، أما اليابانيون فهم على يقين بأن اصولهم جاءت من الشمس المشرقة، فهل هذه المفارقات تشكل تأثيرا في قضية النمو الاقتصادي؟

لقد قفزت اليابان في الثمانينات من القرن الماضي الى ذروة النمو حتى اصبحت ظاهرة تستحق التأمل والدراسة، وغدت مثلا لشعوب العالم، أما اليوم فنجد ان هناك تداعيات في الاقتصاد الياباني. فهل هذه المشكلات الاقتصادية تتعلق بالجذور كما يحاول «اليكس كيرر» ان يبرهن عليه؟ أم انها الرياح الاميركية التي اخذت تهب على اليابان، فأورثتها كسادا مقصودا؟

يقول الدكتور كيرر، وهو استاذ اميركي يقيم في اليابان لأكثر من ثلاثين عاما: «سوف تكون الكارثة هي الامل الوحيد المتبقي لليابان، وبما انه من غير المحتمل حدوث هذا الامر، فالبلاد محكوم عليها بالبقاء إلى ما لا نهاية، في حالة من الوهن، وفقدان الحيوية التي تعيشها اليوم».

ومع كل ذلك، فلن أنساق مع كيرر في نظرته التشاؤمية، التي أوردها في كتابه «كلاب وشياطين» Dogs and Demons لأن الاعتقاد في امكانية الوصول الى الحقيقة يظل أفضل من الاعتقاد باستحالة الوصول اليها.

لقد بلغت اليابان حدا من النمو، اصبحت فيه الدولة الاكثر تقدما في قارة آسيا، وكان اقتصادها هو الاضخم بالنسبة للدول الآسيوية مجتمعة بما فيها الصين، لكن الميزان الاقتصادي منذ عقد من الزمان أخذ يتغير بسرعة، ومع هذا فإن اليابان لا تزال في حالة ازدهار نسبي، وان ميزان المدفوعات لا يزال فائضا.

إن الواقع المميز في اليابان، هو ان جماعة الرأي فيها لديهم الشجاعة على الاعتراف بعللهم واضطراباتهم، فهم لا يعمدون الى المغالطة كما هو سائد في معظم الدول النامية، وانتخاب رئيس الوزراء الأخير (جونشيرو كويزومي) يمثل النزوع الجماعي نحو الاصلاح.

ومن محطة «شيبويا» حيث تجد نفسك تقف بين أمواج تتلاطم من البشر، تستطيع ان تلحظ بعض الشباب وان كانوا قلة، وقد صبغوا شعورهم بألوان شقراء، وارتدوا الملابس الفضفاضة البلهاء، وأخذوا يتسكعون بين الناس، وأحيانا يبيعون القمصان المهربة في ساعات ما بعد الظهر، والمقلدة للماركات التجارية العالمية، وإن كانوا يفضلون عرضها في منطقة «اوموتيساندو» التجارية الضخمة.

هؤلاء هم الذين تأثروا برياح التغيير، فأصبحوا يرون انفسهم سعداء، لأنهم يعملون بلا رئيس للعمل، وقد افرزهم الركود الاقتصادي في اليابان، الذي يطلقون عليه كلمة، «هيساي».

هذا الركود وان كان قد زامن اعتلاء الامبراطور «اكيهيتو» عرش اليابان الاقحواني عام 1989، فإنه لا علاقة بين العرش والركود الاقتصادي، إلا ان الشباب منذ ذلك الوقت، أخذوا في التراجع عن العمل في شركات «سوني» و«ميتسوبيشي» العملاقتين، في الوقت الذي تقوم فيه الفتيات اليابانيات بالعمل «كسيدات مكاتب» الى حين زواجهن.

لم تعد لدى الشركات الكبرى في اليابان، فرص تقدمها للطبقة الوسطى كما كانت تفعل من قبل، حيث كان الشاب يحلم بالعمل الذي يقضي فيه حياته، لكن العمل اليوم اصبح مؤقتا يدفع فيه الاجر للشاب بالساعة، هذا الواقع أفرز جيلا من الشباب، عرفوا باسم «الفريتر»، وهو مصطلح يجمع بين كلمتين، فري وتعني «حر» باللغة الانجليزية و«أرياتير» وتعني عامل بالألمانية، وهو مفهوم يعبر عن أسلوب من أساليب الحياة والعمل.

* جيل الركود والفريتر اليابانية ما هي إلا صدى لجيل اكس الاميركي، وهو الجيل المتقاعس عن العمل، إذ لا يعمل الا عند الحاجة الى المال، ويسافر انى اتيح له السفر، ويسخر على الدوام من أسلوب وحياة الآباء المدمنين على العمل.

إذا قدر لك ان تسأل أحد هؤلاء الفريتر عن رأيه في العمل أجابك بالقول: «ليس بوسعي ان أكون عبدا للراتب، فأستيقظ في الصباح الباكر، وأستقل القطار المزدحم وأنقل نظري على الدوام بين الساعة والمحطات، وأعمل حتى وقت متأخر من اليوم، وأتملق صاحب العمل، فأين الحرية؟».

إن جيل الازدهار من كبار السن، يرشقون جيل الركود من الشباب بنظرات ملؤها الاحتقار، ويصفونهم بالمتمردين الذين يستمتعون باللحظة والعيش من يوم لآخر تدللا.

إن هذه الظاهرة الناجمة عن الركود الاقتصادي في اليابان، تشكل تهميشا لجيل الشباب على مدى عقد من الانحدار الاقتصادي.

إن الرأسمالية اليابانية التي شيدت على مجموعات اقتصادية عملاقة، أخذت اليوم تفسح الطريق لقطاع الخدمات الذي أخذت دائرته في الاتساع، فتكونت من جراء ذلك شركات كبرى مثل «ستارباكس» و«يونيكلو» التي تبيع ملابس غير رسمية، وتقدم فرص عمل جزئية، حتى اصبح معظم عمال «يونيكلو» الذين بلغ عددهم 18 ألف عامل، يتقاضون أجورا تبدأ من 8 دولارات للساعة.

إن هذا النهج يعطي الدلالة على انهيار فرص العمل، وينبئ عن تداعي النظام القائم على الاقدمية في الوظائف، فالذين يعملون في وظائف جزئية، هم الأكثر تزايدا في سوق العمل الياباني، فشركة مثل «ريكروت كوربوريشن» تعتبر من أكبر الشركات في مجال الاعلانات عن الوظائف الشاغرة في اليابان، تؤكد ان 3.4 مليون من الفريتر الذين تتراوح أعمارهم بين التاسعة عشرة والثلاثين عاما يعملون في وظائف جزئية، وقد مضى عليهم ما يقارب ثلاث سنوات، لكن 60% منهم يعيشون مع آبائهم.

لقد امتلأت الصحف اليابانية بالاعلان عن الأعمال الجزئية والتشجيع عليها، مع التأكيد على التنازل عن الانظمة الشخصية للشركات، وجاءت الاعلانات لتنص على الاشارة الى ان هذه الاعمال تمنحك الحرية في اختيار ملابسك وقصة شعرك، كما تتيح لك فرصة النهوض في الصباح من دون ان تتعجل، ولا تفرض عليك شروط الخبرة.

إن المشكلة الحقيقية في اليابان هي ان اليابانيين يدركون حجم المأساة ويعيشونها، لكنهم يرفضون التعايش معها، وهذا هو ما يختلفون فيه عن الشعب الاميركي.

ومع ان «المعهد الياباني للعمل»، يعتبر من أبرز مراكز الابحاث التي تمولها الدولة، ويعنى بقضايا العمل، إلا انه لا ينصح بالتعايش مع الواقع في هذه الظاهرة.

فالخبيرة «رايكو كوسوغي»، الباحثة في المعهد الياباني، ترى ان الفريتر هم في الاساس فنانون وموسيقيون، يبحثون عن عمل غير متفرغ، كي يكسبوا منه معيشتهم. لكن الفاشلين في الحصول على العمل يشكلون اليوم أغلبية من بين هؤلاء وأخذ عددهم في التنامي وشعارهم على الدوام «لا نريد ان نكون عبيدا للراتب». وتقول في دراستها التي اعدتها تحت عنوان «الفريتر واقعهم وتفكيرهم» إنهم يريدون الحرية والمرونة في حياتهم، ويفتقرون الى هدف ثابت، إذ ليست لديهم القدرة على ربط وضعهم الحالي بمهنة ثابتة في المستقبل.

* سقف النمو أما عالم الاجتماع الياباني ماساهيرو يامادا، الاستاذ بجامعة «غاكوغي» بالعاصمة طوكيو، فقد كان ينظر الى الفريتر بقسوة بالغة، بعيدا عن حنان رايكو كوسوغي، فيصفهم بـ«المنغمسين» في الملذات، مصاصي الدماء، فهم يعيقون اقتصاد الدولة، ويستنزفون حيوية الأمة. وبعد ان شخص يامادا الحالة في مقاله بمجلة «جابان كوارتر» Japan Quarterly تحت عنوان «الطفيليون الذين يقتاتون على النظام العائلي» وصف العلاج قائلا: انه يجب اخراجهم من بيوت آبائهم، وان يتزوجوا مبكرا وينجبوا مزيدا من الاطفال.

إن اعادة اسلوب الشركات اليابانية الكبرى الى الحياة من جديد، لن يستعيد اخلاقيات العمل القائم على التضحية بالذات، والتي جعلت من اليابان عملاقا صناعيا، فعصر العولمة يقتضي منا التعايش مع العصر، والتفكير في الوسائل التي يمكن بها المحافظة على القيم من التلوث، والبحث في اسلوب عصري للتعامل مع الشباب بعقليته المعاصرة، فالولايات المتحدة أخذت تنتهج أسلوبا جديدا في التعامل مع هذا الجيل من الشباب، وذلك عن طريق تغيير نظام العمل ومنحهم مزيدا من الحرية.

إن المرونة في التعامل مع المتغيرات هي التي تعطي مساحة لاتساع سقف النمو، أكثر من العبودية للتقاليد الصناعية وقيم السوق، فقد قال علي بن ابي طالب كرم الله وجهه «لا تقسروا أبناءكم على آدابكم فانهم خلقوا لغير زمانكم».

* باحث سعودي