حديث القمة

TT

هذا حديث فيه كثير من الصراحة والغضب بعيداً عن الكياسة والفطنة الاجتماعية التي يتوهم البعض أو يوهمون أنفسهم أنهم وحدهم يملكونها، كما يملكون الحقيقة مطلقة والحكمة خالصة بما يسمح لهم بإعطاء الدروس لغيرهم عن المهنية والأخلاقيات مع أن غرورهم يوردهم موارد فساد الاستدلال وانعدام المنطق.

إن المنظر الدولي الحالي يثير كثيرا من الأسى والدهشة، فكل ما درسناه وسمعناه عن القانون الدولي، والقوانين الإنسانية، وعن دور مجلس الأمن في حفظ السلام والأمن الدوليين، ودعوات الدول العظمى لاحترام حقوق الإنسان ومحاربة العدوان والإرهاب.. كل هذا نكاد لا نرى له في الواقع ذكرا أو وجودا.. إن كل ما يحدث الآن على أرض فلسطين بدايته التي لا يمكن المجادلة فيها هي الاحتلال الإسرائيلي وهو احتلال شرس انتقل من حرمان الشعب الفلسطيني من كل حقوقه في أن يحيا حياة حرة كريمة مستقلة في دولة هو سيدها، إلى محاولة اجتثاث ذلك الشعب من أرضه، بل إبادته في مجزرة ومحرقة أو وفقاً لتعبير نائب وزير الدفاع الإسرائيلي شبيهة بما أذاقه النازيون لليهود الذين يطبقون على الآخرين الآن سياسة الإسقاط أي تحويل الضحية الى جزار ومجرم. ومن الطبيعي أن يواجه مثل هذا الوضع بمقاومة من الشاه التي لا تريد أن تذبح وتتمسك بحقها وتتخذ تلك المقاومة أشكالاً مختلفة من العنف إلى المقاومة السلبية. وليس ضروريا هنا أن يكون سلاح المقاومة أمضى من سلاح الغاصب المحتل، بل إن التاريخ أوضح أن المقاوم رغم ضعفه وتحمله تضحيات كثيرة ينتهي الى دحر المحتل كما رأينا في فيتنام وفي الجزائر وفي لبنان. ورأينا في السابق أن المجتمع الدولي كان ينحاز الى جانب طالبي الاستقلال، وهذا واضح مثلاً الآن في موقف الغرب من استقلال كوسوفو برغم ما قد يحيط بالموضوع من حجج مختلفة في مضمونها أو دقتها. ولكن المشكلة مع فلسطين أن الولايات المتحدة قررت ألا تعبأ إلا بقوانين انحيازها أو رضوخها لإسرائيل أو استخدامها لإسرائيل لكي تنفذ مخططات تنبع من عقول مريضة لمجموعة ممن يسمون المحافظين الجدد وهم في الحقيقة عصبة من العنصريين يؤمنون بسيادة فكرهم وفلسفتهم التي تتخفى وراء مبادئ مزعومة يتاجرون بها وهي في الواقع تخفي مطامع واحتقارا للآخرين، وقد استطاعوا فيما يبدو اختطاف الإرادة السياسية الأمريكية وتوجيهها وجهة تخالف المبادئ التي نبعت عن حرب الاستقلال.

وهكذا تستمر إسرائيل في إجرامها وممارساتها الحقيرة، بينما يتعذر على مجلس الأمن اتخاذ قرار يدين تلك التصرفات من حصار وقطع الكهرباء ومنع الغذاء والدواء والاجتياح والتدمير، مما اعتبره خبراء في القانون الدولي يشكل جريمة إبادة تستلزم تكوين محكمة خاصة أسوة بمحاكم سبق تكوينها في حالات أخرى، وإن كانت أحياناً أقل حدة. وقد فرض مجلس الأمن منذ أيام عقوبات للمرة الثالثة على إيران بتهمة عدم وقف نشاطات يقال إنها قد تؤدي إلى حيازة أسلحة نووية، بينما إسرائيل ـ بالإضافة الى كل ما عددناه من جرائم ـ تملك بالفعل السلاح النووي منذ سنوات، ويستخدم في ذلك منطق غريب وهو أن إسرائيل ليست طرفاً في معاهدة منع الانتشار النووي مع ان المنطق والمفروض أن يتم الضغط عليها للانضمام للمعاهدة. أليست كل هذه الأمور ضربات للقانون الدولي الذي ضحى عبر السنين في سبيل إرساء قواعده عدد كبير ممن آمنوا بالحرية.

وإذا كان الإسرائيليون يدعون أن اجتياحهم الأراضي الفلسطينية هو رد على إطلاق صواريخ فإن ذلك يثير عدداً من الأسئلة المنطقية التي نرجو كل ذي عقل أن يحاول الرد عليها. فهم يقولون ويقول غيرهم إن تلك الصواريخ غير ذات فعالية ولا تؤدي إلا الى خسائر طفيفة، فكيف في هذه الحالة يمكن تبرير أن يكون الرد عليها بالطريقة الهمجية التي رأيناها، ثم إنه لم تطلق الصواريخ من الضفة الغربية ومع ذلك فقد تعرضت هي أيضاً للعدوان والاجتياح والقتل. ومن المؤسف أن يوصف ذلك بأنه استخدام مفرط للقوة، وهو تعبير لا أعرف في الحقيقة ما هو المقياس الذي يجعل الاستخدام للقوة الغاشمة غير مفرط، مع ان المسألة مسألة مبدأ وليست بالقطع مسألة «درجة» كما أنه من المؤسف أيضاً أن نسمع من بعض الفلسطينيين قولهم ان الصواريخ التي تطلق على إسرائيل ترتد إلى الأراضي الفلسطينية فتدمر المنازل وتقتل الفلسطينيين، كأن في ذلك تبرئة بدرجة ما لإسرائيل، كما سمعنا من يقول إن تنظيم «القاعدة» أصبح موجوداً في غزة وكأن ذلك يوفر غطاءً سيكولوجياً وحجة ـ لم تستخدمها إسرائيل نفسها ـ لتبرير العدوان.

أليست كل هذه أمور تثير الدهشة الممزوجة بالغضب؟ وأتصور أن المنطق يقتضي إزاء هذه التطورات أن يستجيب الفلسطينيون للدعوة التي وجهتها مصر الى فتح وحماس لاستئناف الحوار، وهي الدعوة التي سارعت رام الله لرفضها أو الاعتذار عنها. وأن يؤدي هذا الحوار للعودة الى صيغة الوحدة الوطنية مع إعلان وقف إطلاق النار مقترناً برفع الحصار الجائر عن الشعب الفلسطيني، وإعادة تكليف الرئيس أبو مازن بالتفاوض مع الإسرائيليين على ان تطرح أية نتيجة لتلك المفاوضات على الشعب الفلسطيني في استفتاء وفق ما كان قد اتفق عليه من قبل. ويستلزم رفع الحصار الاتفاق على تنظيم جديد للمعايير يتجنب الأوضاع السابقة التي سمحت لإسرائيل، أن تغلق معبر رفح في أغلب الأيام خاصة بعد تخويف ممثلي الاتحاد الأوروبي وجعلهم يتركون أماكنهم مما استخدم حجة لاستمرار إغلاق المعبر، وجعله جزءاً من الحصار للشعب الفلسطيني وساهم في الأحداث المؤسفة التي حدثت على الحدود المصرية الفلسطينية، والتي أمكن تجاوزها وتجنب تكرارها بفضل القرار الحكيم الذي اتخذه الرئيس حسني مبارك.

وليس من شك في أنه إذا تحمل كل طرف مسؤوليته بشجاعة فإن ذلك قد يسهم في هزيمة النوايا والمخططات الإسرائيلية التي لم تلق للأسف من المجتمع الدولي ما تستحقه من عقاب. إن مسؤولية القادة الفلسطينيين أن يكذبوا عملياً ما نشرته مجلة «فانيتي فير» الأمريكية في عددها الأخير حول مؤامرة أمريكية لإفساد نتيجة الانتخابات التشريعية، التي ألحت عليها فلما انتهت إلى فوز حماس، أخذت تحاول توريط بعض القيادة الفلسطينية في تصرفات لإحداث صدام بين جناحي الشرعية: شرعية الرئاسة والشرعية البرلمانية. وإذا كان يصعب تصديق تلك الادعاءات التي تبدو جزءاً من عمليات وقيعة لم تتوقف، فإن دحضها يتحقق قطعاً بإعادة توحيد الصف الفلسطيني والعودة إلى صيغة حكومة الوحدة الوطنية لتجاوز الأخطاء التي وقعت في الماضي سواء نتيجة تحريض أو نصب الفخاخ. وإذا تحقق هذا، يكون على الدول العربية دورها في دعم الموقف الفلسطيني الموحد، وأن تتخذ في سبيل ذلك ما تراه من إجراءات واتصالات وتبذل ما هو متاح لها من ضغوط لجعل الموقف الأمريكي الفعلي يتفق مع ما أعلنه الرئيس بوش عن قيام دولتين مستقلتين ثم لم يفعل عملياً إلا كل ما من شأنه أن يعوق تحقيق هذا الهدف رضوخاً لانحيازات لإسرائيل لا تحقق أمناً لأي طرف من الأطراف.

هذا كلام أكتبه ونحن نقترب من أجواء تبدو ملبدة بالغيوم من موعد انعقاد القمة العربية. وقد بذل الأمين العام لجامعة الدول العربية جهوداً لخلق أجواء مناسبة لانعقاد ناجح، وهي أجواء لا تتوقف فقط على تسوية مشكلة الرئاسة اللبنانية التي تبدو لي مثل قمة جبل الثلج الذي يحتاج لإذابته مصارحات تتجاوز شكوكاً ومخاوف كثيرة. ولعلنا نذكر أنه عندما تقررت دورية القمة، كان الهدف عدم السماح لأية مشاكل بإعاقة انعقادها، وما زال في تقديري من الممكن أن تعقد لقاءات على مستوى القمة، تضم عدداً من الزعماء قادرين على تجاوز العقبات الحقيقية أو النابعة من أخطاء ارتكبت في الماضي، ولا ينبغي السماح لها بأن تعرض المصير العربي كله للمخاطر.