الربعي .. سمى «العربية» ورحل

TT

تذكرني حياة الفيلسوف والمناضل والكاتب والنائب والوزير الصديق الراحل أحمد الربعي بحياة الكبار في تاريخنا، ولعل تخصصه في الفلسفة ودخوله غمار السياسة والكتابة والأدب والإعلام والفن، يسمحان لي بتشبيهه بالفيلسوف والطبيب والعالم أبو بكر الرازي، فهو يشبهه إلى حد بعيد في مهارة التجريب والإبداع، والسعي إلى زرع الفضيلة وحسن الخلق في نفوس تلاميذه ومجايليه، فضلاً عن اشتراك الاثنين في قصر الحياة مع عظمة حصيلتهما، فمن صدف التشابه بينهما أن الرازي كان دائماً يردد «اللهم ارزقني حياة عريضة، ولا ترزقني حياة طويلة» وقد استجاب الله له فمات وهو لم يكمل الستين من عمره تاركاً خلفه تراثاً علمياً وطبياً عظيماً، وأحسب أن أحمد الربعي كان يردد الدعوة ذاتها فمات وهو لم يكمل عقده السادس، لكنه عاش حياة تشبه سير أبطال الروايات السياسية، فعلاوة على شدة ذكائه وسرعة بديهته، وقدرته على العمل بلا كلل، استطاع أن يجعل سيرة حياته جزءا من سيرة وطنه الكويت، فمن يقرأ حياة «أبو قتيبة» التي بدأت في الخمسينات من القرن الماضي، يجد أنها تسجيل دقيق للحياة السياسية والثقافية والفكرية والإعلامية في الكويت، وهذا الامتزاج بين الوطني والذاتي عند الربعي لا يقوى على فعله إلا القلائل من الرجال وأحمد الربعي واحد من أبرزهم في تاريخ هذه المنطقة.

تفتق وعي الربعي وبلاده تخرج للتو من الاستعمار وسط المد الناصري والقومي، فكانت أروقة جامعة الكويت تضج بشعارات التحرر والوحدة والثأر من الاستعمار، وكانت التنظيمات القومية واليسارية العربية تنشط في الكويت، وفي تلك الفترة شهدت الكويت ولادة منظمة التحرير الفلسطينية، فانخرط الربعي في النضال السياسي، وتعرض للاعتقال في غير بلد عربي، ومارس المقاومة على الأرض، فحارب في صفوف الرفاق في فتح، وكان اسماً مهماً في مؤتمرات وندوات الناصريين والقوميين واليساريين.

في أواخر السبعينات من القرن الماضي بدأ الفصل الثاني من حياة بطل الرواية الكويتية فسافر إلى الولايات المتحدة، وعاش في مجتمع صفوة الليبراليين في جامعة هارفارد، وفي منتصف الثمانينات عاد «بطل الرواية الكويتية الحديثة» إلى الوطن. كان هذه المرة أكثر تنظيماً وتحديداً ووعياً، فدخل مجلس الأمة الكويتي ليعبر عن آرائه من منبر سياسي وطني، وبدأ الدكتور أحمد الربعي هذه المرة أكثر قرباً من المناخ السياسي في بلده من حيث الإطار واللغة والتوجهات، فلفت إليه نظر القيادة السياسية، فترك كرسي المعارضة إلى منصب الوزارة، فأحدث نقلة في مفهوم شخصية الوزير وعمله، لكنه لم يستمر طويلاً فهو اعتاد أن يكتب ويفكر على نحو مستقل، وبرغم أن الربعي يصنف على التيار الليبرالي في الكويت إلا انه يحسب ألف حساب لجذوره المحافظة، ويرفض التغيير بتهميش الآخرين أو القفز على ثوابت الناس وتقاليدهم، فضلاً عن رفضه المطلق لممارسة العنف ضدهم، آيا كانت درجة هذا العنف، وكان لا يفتأ يردد أننا مجتمعات محافظة، ويجب أن نمنح الآخرين فرصة للتعبير عن أنفسهم، فالمجتمعات لا تتغير بالرعونة والقسرية.

في الفصل الثالث من حياة الربعي استيقظ الكويتيون على مدافع جيش صدام حسين تدك كل جزء من مدينة الكويت الوادعة، فوجد فقيدنا نفسه في إشكالية تجعل الحكيم حيرانا، فهذا الغزو البربري دخل الكويت تحت شعارات طالما حارب من أجلها الربعي، ومعه كل بلاده وصحافتها ومثقفيها.. ها هم الرفاق الذين قاتل الى جانبهم فقيدنا يرفعون شعارات النصر باحتلال الكويت، وها هو الراحل ياسر عرفات الذي احتضنته الكويت، وسهلت له إطلاق حلم المقاومة، وقاتل معه الربعي وسجن من أجله، يردد على الملأ: «استمر يا صدام.. و يا جبل ما يهزك ريح»... يا إلهي، أي شعور هذا الذي أحسه الربعي ومعه ملايين الكويتيين في تلك اللحظات العصيبة.

لكن الربعي مثقف من طراز خاص ولا تشوب وطنيته شائبة.. فانطلق المناضل القديم بصوته وقلمه وعلاقاته من جدة إلى القاهرة ودمشق، وعواصم الشرق والغرب، يدافع عن وطنه فصار أمة في رجل. وحين تحررت الكويت عاد الربعي الى سيرته الأولى، يقيم حواراً مع العراقيين والفلسطينيين والمناضلين القدامى، فبقي وفياً لسعيه في زرع الفضيلة وحسن الخلق، وعاد يكتب عن قضايا الأمة وهمومها، وكان بحق من أكثر المثقفين الكويتيين قدرة على تجاوز الشرخ الذي أحدثه الغزو.

في عام 2003 كنت أخطط لإطلاق قناة «العربية»، وكان الصديق الراحل احمد الربعي من اقرب المثقفين العرب مني شخصياً، وكنت أستشيره، واستفيد من خبرته السياسية والإعلامية، واذكر في احد اجتماعات البحث عن اسم للقناة الوليدة، طرح الزملاء أسماء كثيرة، لكنها لم تلفت نظري، وكان احمد الربعي صامتاً، ثم التفت إلي وقال: يا أبو خالد الان هناك قناة إخبارية اسمها «الجزيرة»، هي الجزيرة ونحن «العربية».. قناتنا اسمها «العربية».. قلت له: يا أبا قتيبة هذا الاسم يليق فعلاً بالجهد الذي بذلناه في الإعداد.. على بركة الله.. اسمها «العربية» وأنت من سماها.

وبعد، فإن شعارات العروبة التي ناضل من أجلها أحمد الربعي واحتلت وطنه يوماً ما، لم تغير من معدنه العربي الأصيل، فكان على الدوام مثل وطنه اكبر من أصحاب الشعارات، ففصل العروبة عن أهل الشعارات، وتمسك بها، وحين فكر في اطلاق اسم على قناة إخبارية تخاطب العرب فكر بعروبته التي لم تتغير يوماً.. فجسد حبه للعرب والعروبة باسم «العربية».. رحمك الله يا ابا قتيبة.. سنبقى نتذكرك يا صاحب الاسم الجميل والأصيل.

* رئيس مجلس إدارة مجموعة mbc