لقد اشتقت للبنان

TT

ليس من عادتي زيارة المرضى، ليس كراهية مني لهم، لا، أبداً والله، لكن لأن صدري يضيق وينكتم حالما ادخل من الباب الخارجي لأي مستشفى، وأقرأ (المعوذات وأتشهّد) على روحي الغالية في الدخول والخروج منها، ولا أتشاءم أو أتطير إلاّ من رؤية أربعة: العزاب والطبيب والقط الأسود والمرأة (الرغايّة).

ولكنني أمس اضطررت مرغماً لزيارة مريض لا أكن له لا كثيرا ولا قليلا من العطف والمحبة، غير أن (الحاجة) لعنها الله هي التي أجبرتني على ذلك إلى درجة أنها (جابت مناخيري بالأرض).

ولكي أضعكم بالصورة، فالمريض مدين لي بمبلغ من المال لم أحصل عليه حتى هذه اللحظة، وسمعت انه قد أجرى عملية خطيرة، وانه قاب قوسين أو أدنى من الهاوية، فعزمت أن الحق (بالركب) ـ أي أن اظهر وجهي الكالح أمام أبنائه الذين هم ورثته ـ، وهم أملي الوحيد في هذه الدنيا باسترجاع ديني، هذا إذا كان فيهم خير ـ.

وكنت أتوقع أو بمعنى أصح كنت أتأمل انه في غرفة الإنعاش، وان حالته ما زالت حرجة، وانه يعاني من سكرات المرض، غير أنني تفاجأت أن حالته للأسف قد تحسنت وأنهم قد نقلوه إلى غرفته الأولى العادية، فاسقط في يدي بالطبع، ودخلت إلى غرفته، وإذا بثلاثة من أبنائه متحلقين حوله، وامرأته جالسة بالركن تكفكف دموع التماسيح، وما أن رأتني حتى تلفعت بعباءتها السوداء.. سلمت عليهم وجلست بمقعد بجانب سرير غريمي، الذي عجز الموت أن يطرحه أرضاً حتى هذه الساعة.

تبسمت بوجهه ابتسامة صفراوية، وقلت له وأنا أصر على أسناني: (سلامتك)، تجاهلني وكأنه لم يسمعني ويشاهدني.

وقال لأحد أبنائه وهو يشير للنافذة: لماذا قفلتموها؟!

فقال له ابنه: إننا فعلنا ذلك بأمر الدكتور.

فما كان مني إلاّ أن أتدخل في الحديث من دون أن يطلب مني أحد ذلك، فقلت له: لقد شب حريق في العمارة المجاورة، وقد خشي الدكتور وأبناؤك أن تفيق بعد تأثير البنج فيقع نظرك على لهيب النيران، فيدخل في روعك أن العملية لم تنجح وانك انتقلت على (الرحب والسعة) إلى جهنم.

فقال لي وهو يغمغم: جزاهم الله خيراً.

فتناهى لسمعي شهيق وزفرات زوجته وهي تدعو عليّ بالويل والثبور وعظائم الأمور.

* * *

تناقلت الأنباء أن هناك رجالا من قبيلة (كاياب) المستوطنين في غابات الأمازون بالبرازيل، قد احتجزوا 4 تجار من المغتربين اللبنانيين كانوا مع 12 من نظرائهم البرازيليين في رحلة صيد، واقتادوهم إلى موقع مجهول في أعماق الغابات، وهددوا بشويهم على النار، ثم أكلهم.

طبعاً أنا ضد أكل البشر، سواء كبة (نية) على الطريقة اللبنانية، أو كبة (مشوية) على الطريقة التركية. ولكنني حقاً كنت أتمنى لو أن رجال تلك القبيلة قد استبدلوا هؤلاء الأربعة اللبنانيين المتعرين في البرازيل، أقول لو أنهم استبدلوهم بأربعة من اللبنانيين السياسيين أصحاب الخطب والمنابر والسيارات المفخخة ـ خصوصاً أن أجسامهم ما شاء الله قد طبقت شحماً ولحماً ـ. وعليكم أن تختاروا وتنتخبوا ما شئتم، وتحددوا أي الأربعة أشهى وأزكى وأطيب طعما؟!

لقد اشتقت للبنان، من دون سياسييه الذين لا يستحقونه بأي شكل من الأشكال.

[email protected]