وأخيراً قاطعوا..

TT

سؤال وجيه ومحرج تطرحه وزيرة الثقافة الفرنسية على العرب بعد أن قرروا في اللحظة الأخيرة مقاطعة معرض الكتاب الفرنسي الذي يفتتح الأسبوع المقبل، بوجود الرئيسين الإسرائيلي شيمون بيريز والفرنسي نيكولا ساركوزي، ويحتفي بالدولة العبرية وأدبها كضيف شرف، بمناسبة بلوغ إسرائيل الستين من عمرها. تسأل الوزيرة الفرنسية كريستين ألبانيل باستغراب: «لماذا يلغي العرب الآن حجوزاتهم، واستضافة إسرائيل أمر معدّ له منذ سنة، وقد قبلوا على أساسه دعوتنا؟». الجواب، قد لا نسمعه أبداً. فقد نسي العرب لفترة طال أمدها، ان ثمة ما بمقدورهم فعله لدفع الاستفزاز والقتل أو الإهانات التي يمكن أن توجهها لهم دولة أو حتى جمعية. وربما انه لولا الحملة المستجدة للرسوم الكاريكاتورية التي عادت رياحها لتهب من الدنمارك، وفوقها الفيلم الهولندي للبرلماني اليميني الذي يهاجم القرآن، إضافة إلى هجمة أخرى من أستراليا، وغيرها من ألمانيا، راغباً في نشر الرسوم الكاريكاتورية الساخرة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل الصحف الأوروبية، ثم متراجعاً أو مصححاً لا ندري، لما شعر كثيرون أن محرقة غزة، فادحة وخطيرة.

وشئنا أم أبينا، فالشعور الديني هو محرك هذه المنطقة، لا الحق الإنساني الأخلاقي. ولعل معرض الكتاب الفرنسي، ومعه معرض الكتاب الإيطالي الذي يحتفي بعيد ميلاد دولة إسرائيل الستين هو الآخر في شهر مايو المقبل، كانا سيمرآن على العرب كالماء الزلال، لولا شعورهم الديني المخدوش الذي جاءت غزة النازفة لتزيده احتراقاً. وبما أنه من الخير أن تستفيق متأخراً على أن لا تستفيق ابداً، فالمهم الآن أن هذه اليقظة العربية، بدأت تؤتي أكلها. وإذا كان اليسار الإيطالي قد انقسم بين مؤيد ومعارض للاحتفاء بدولة إسرائيل التي تنتهك حقوق الإنسان، فإن مناهضي العولمة احتلوا مبنى معرض الكتاب رمزياً وأقاموا رسوماً غطت حوائطه كلها، اعتراضاً على ما أسموه «هولوكوست فلسطين». وما تزال المناقشات مستمرة، بين مؤيد ومعارض، بمجرد أن حرك العرب ساكناً لا أكثر.

وفي فرنسا حيث يعيش 6 ملايين مسلم، يبدو أننا سنرى ثلاثة اصناف من ردود الفعل العربية في معرض الكتاب. فهناك المقاطعون ـ رسميون ومدنيون ـ وهؤلاء غالبية. وثمة فئة ثانية بمقدورنا أن نسميها «العكاظية» أخذت على نفسها، إقامة قاعدة بشرية وفكرية لها في المعرض، هدفها مقارعة التظاهرة الإسرائيلية سلمياً والتذكير بمأساة مرور ستين سنة على نكبة فلسطين، المعادل الموضوعي للاحتفال بقيام دولة إسرائيل. وإلى هؤلاء سينضم المفكر الإسلامي الشهير طارق رمضان الذي يدرّس حالياً في «جامعة أكسفورد». وهناك الفئة العربية الثالثة التي لا تشعر بهمّ أو غمّ. وعلى هذه الفئة «الحيادية» يعول المنظمون ـ وخاصة اللبنانيون منهم ـ الذين يشعرون أن لفرنسا في عنقهم دَيناً، حتى ولو كان حبلاً يزهق أرواحهم. فالكاتبة هيام يارد ـ كما قالت للصحافة الفرنسية ستذهب باسمها الشخصي، وصاحب «مكتبة أنطوان» الشهيرة لن يفوت فرصة اللقاء بزملائه الفرنسيين. ونحن نتمنى لهما التوفيق في مهمتهما، ومعهما كل من لا يشعرون أن خسارة فرصة او اثنتين أفضل من تضييع العمر كله في وحل التواطؤ مع الجلادين أو السكوت عنهم. علماً بأن الكتاب الإسرائيليين المدعوين لن يحضروا جميعهم، وثمة من يشعر بالعار من دولته المجرمة. ومن هؤلاء المؤرخ ايلان بابيه الذي اصدر بياناً يرفض الدعوة ويطلب من العالم التجاوب مع حملة المقاطعة الأكاديمية للثقافة الإسرائيلية التي تنادي من العام 2005 بمعاملة إسرائيل كدولة تمييز عنصري. وكذلك الشاعر الإسرائيلي أهارون شاباتي الذي رفض حضور الاحتفالية لأنه «غير مقتنع بأن دولة محتلة ترتكب جرائم يومية ضد المدنيين تستحق أن تدعى إلى أسبوع ثقافي أياً كان نوعه».

هذا لا يعني أن الصورة وردية، وأننا كسبنا المعركة، فقد رفعت حالة التأهب الأمني في المعرض إلى حدودها القصوى، على اعتبار أن القضايا العربية والإسلامية هي قرين «الإرهاب» و«التخريب». وحملة كبيرة تشن على العرب باعتبارهم رافضين للحوار، ولا يميزون بين السياسة والثقافة. وهو شرك وقع فيه كتاب مصريون يخشون على أنفسهم سوء السمعة، على ما يبدو. ومع احترامنا لخوفهم أن تكون المقاطعة مجرد حالة عاطفية لا عقلانية كما ذكر البعض في مجلة «أخبار الأدب»، منتقداً قرار اتحاد الكتاب والنقابات الفنية، إخلاء الساحة للإسرائيليين، فهل من العقل في شيء أن نكون شركاء في الاحتفال بقيام إسرائيل التي لا يمر سنة دون ان تقتل ألف عربي، هذا غير الجرحى والمشردين؟

وهل من باب تطبيق معاهدات حقوق الإنسان قررت كل من فرنسا وإيطاليا، أن تضعا الأدب الإسرائيلي، في الصدارة، من خلال مناسبتين هما من بين الألمع، ثقافياً، في القارة الأوروبية، بينما ترفع هذه الدولة المحتلة جدران الفصل العنصري وتقتل الناس بأسرع مما تقتل الفئران؟ لم نعد نحن من نسأل بل الأوروبيون أيضاً، هل بالصدفة يتم الاحتفال بإسرائيل من خلال كتابها اليهود فقط؟ وأين المسيحيون والمسلمون الذين يكتبون بالعبرية مثلاً أو بالعربية في إسرائيل، ولماذا لم يدعوا لإلقاء الضوء على حقيقة التعددية الموجودة على الأرض، ويراد محوها؟ أم أن هناك تضامناً بين تطويب جورج بوش لإسرائيل كدولة يهودية، وهذه الاحتفالات المريبة التي تلبس مسوح الشعر والرواية؟ الأسئلة كثيرة، وليس المهم الآن أن نتفق جميعنا على المقاطعة، بل ان نصدق بأن ما يحدث في غزة، لا يمكن أن يمر دون مقدمات ثقافية تغسل الأدمغة كالتي تدور اليوم في باريس ومدينة تورين الإيطالية. ويبدو انه أينما وليت وجهك عزيزي العربي، ثمة معركة تنتظرك على زاوية الطريق، عليك أن ترسم استراتيجية مسبقة للتصدي لها. وربما من المفيد جداً، أن تتسلح بكتاب «فن الحرب» للكاتب الصيني «صن تسو» الذي يعلمك الانتصار حتى قبل خوض المعارك.