أنقذوا لبنان من «اللاغالب واللامغلوب»

TT

ما كاد حوار الطرشان بين الأكثرية البرلمانية والأقلية المعارضة في لبنان، يتحول إلى تجربة عصرية في الجدل البيزنطي على خلفية أرقام التمثيل الحزبي في حكومة عهد لم يبصر النور بعد.. حتى سارعت الأقلية المعارضة إلى الطرح على الأكثرية البرلمانية فكرة تسوية على مبدأ «لا غالب ولا مغلوب»، في محاولة سافرة لتمرير صيغة حكم تنزع من الأكثرية حقها بتمثيل مواز لحجمها في البرلمان وتمنح الأقلية موقعا يتجاوز بكثير نسبة تمثيلها. وفي تأكيد جديد للتطابق الكامل بين طروحات المعارضة اللبنانية والمخطط السوري في لبنان، أعاد وزير الخارجية السوري وليد المعلم، طرح هذا «المبدأ» في مؤتمره الصحافي المشترك في الأول من مارس (آذار) مع الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، كأساس مطلوب لأي تسوية للأزمة اللبنانية. يبدو انها كانت «ساعة تجل» يوم طرح هذا الشعار، للمرة الاولى، عام 1958، فقد صار «اللازمة» التي تتردد في كل أزمة كيانية يواجهها لبنان، والذريعة المزمنة لتقاسم الحكم وفق معادلة تتجاوز إطار المعطيات السياسية القائمة، واستطرادا وصفة لإرجاء حسم خلافات اللبنانيين المصيرية التي تزداد تفاقما مع الزمن، ما يعني إبقاء نزاعاتهم معلقة بانتظار جولة مواجهة جديدة تعرّض السلم الأهلي للانهيار.. على الصعيد الحزبي الضيق تحول شعار «لا غالب ولا مغلوب» الى ضمانة مسبقة للميليشيات وقادتها بأن جرائم حروبهم لن تكون يوما موضع مساءلة.. لأن كل أزمة لبنانية، مهما كبرت، لا بد وأن تنتهي «بلا غالب ولا مغلوب»، أي بلا محاسب ولا محاسبين. هل كتب على اللبنانيين أن يظلوا أسرى شعار لا يقتل الذئب ولا يفني الغنم ـ ظاهرا ـ ولا يسمح بقيام دولة المؤسسات، باطنا؟

منذ بدايتها التاريخية التي تعود إلى ثاني حكومة «توافقية» تشكلت في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب عام 1958 برئاسة رشيد كرامي، بدت صيغة «لا غالب ولا مغلوب» وكأنها دعوة واضحة لاعتماد المعايير الطائفية قاعدة لتقاسم السلطة كائنا ما كانت الحصيلة السياسية للازمة القائمة في لبنان. أما في مضمونها العملي فقد شكلت دعامة مبطنة لاستمرار حالة الانقسام الطائفي في إطار إدامة معادلة غير متوازنة سياسيا، فأصبت الذريعة «التوافقية» للحؤول دون غلبة نهج سياسي على آخر في لبنان... بداعي الحفاظ على «الصيغة اللبنانية». ولكن «الدمغة» اللبنانية لصيغة «اللا غالب ولا مغلوب» لم تحل يوما دون تأثّر تطبيقها الميداني بضغوط موازين القوى الإقليمية والدولية:

* في عام 1958 استظل تطبيقها معادلة توازن اقليمي مؤقت بين الولايات المتحدة والجمهورية العربية المتحدة

* في عام 1976 استند التطبيق إلى «اتفاقية جنتلمان» بين دمشق وواشنطن، سمح بدخول الجيش السوري الى لبنان لوقف زحف مقاتلي «الحركة الوطنية» (المدعومة من المقاومة الفلسطينية) على الميليشيات المسيحية.

* في عام 1989 توسلت التفاهم العربي ـ السوري في إطار اتفاقية الطائف للخروج بتسوية مناصفة في الحكم أدرجت مبدئيا في إطار «لا غالب ولا مغلوب» ليتضح بعد تطبيقها أن المغلوب فيها كان لبنان والغالب سورية. غير خاف أن التأثير الخارجي، وتحديدا السوري، على تطبيق ما كان يفترض انه آخر تجربة تسوية تستظل صيغة «لا غالب ولا مغلوب» اتخذ طابع تضمين اتفاق الطائف نصا يُخضع قرارات الحكومة اللبنانية لـ«الثلث المعطل» (حق «الفيتو» لثلث أعضاء الحكومة) تحسبا لغياب الولاء الحكومي المطلق لسورية.. و«بفضل» هذا «الثلث المعطل» لم يستطع معارضو الوجود السوري في لبنان أن يستصدروا، طيلة عهد الرئيس حافظ الأسد، قرارا برحيل القوات السورية من لبنان، لافتقار هذا القرار إلى الأكثرية المطلوبة بموجب دستور الطائف.

* في عام 2008، وبعد أن عاد وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى إحياء صيغة «لا غالب ولا مغلوب» وهي رميم ـ كإطار تسوية، ظاهرا، وكمدخل لعودة النفوذ السوري الى لبنان واقعا ـ يصح سؤال قوى «14 آذار»: الى متى ستستمرون في تجاهل وضعكم كـ«غالب» في البرلمان اللبناني، والتصرف بمقتضاه في انتخاب رئيس جديد للبلاد؟