لماذا كان الربعي أفضلنا؟

TT

على اختلاف مناهجنا وطروحاتنا ووظائفنا، كان الدكتور أحمد الربعي في المقدمة دائما، كمتحدث ومحاور ومحاضر وسياسي وصحافي وإنسان في تعاطيه مع مجتمعه ومن حوله من أبنائه، ورفاقه. ولو جازت الالقاب لقلنا إنه عظيم زمانه، فكرا وعملا في عرض العالم العربي وطوله.

لا نعرف أحدا بثراء حياته حتى آخر لحظاتها. من طالب في هارفارد الى محارب في صفوف العروبيين ضد الاستعمار في الجنوب اليمني والعروبيين مع الفلسطينيين. لا نعرف أحدا خاض غمار الحكومة والبرلمان والكتابة والتدريس الجامعي وجدل الديوانيات ومعارك الإعلام وتحدي العالم في كل قضية كان يؤمن بها. من متطور يستعجل تقدم أمته الى انسان بسيط يزور جذوره في «القصيم» في كل مناسبة. رجل حارب الفئوية والطائفية والفاشية الاصولية والقومية المزورة والديكتاتورية الحكومية. كانت الأمور واضحة جدا بالنسبة له في وقت عمت مفاهيم مائعة عند بقية أبناء جيله الذين هادنوا الشعارات المتوحشة والمسلمات المغلوطة. في رمضان الماضي اتصل بي، بحماسه المعهود، لأنه اكتشف، كما قال، كم هي مهمة مسلسلة الملك فاروق على تلفزيون الـ«إم بي سي». قال: تخيل كيف يكتشف الناس فترة تاريخية مهمة، كانت قد طمرت بتواريخ مزورة. كانت سعادته ان عامة الناس تعلمت من مسلسل تلفزيوني ما فشل المثقفون في تسويقه لهم على مدى عقود طويلة. هذا الرجل ظل مدهشا بالنسبة لي في كل مرة أقابله، وبقدر ما تعرفه جيدا وتدرك مسبقا رأيه في كل الموضوعات، يظل يثير إعجابك بقدرته على إحياء الموضوع نفسه بروح متوثبة. رجل بقدرات متعددة ومع هذا كانت أعظم خصاله شخصيته الجذابة. لكن لنتذكر أن الربعي لم يكتشف كل الحقائق بقراءة الكتب، ومشاهدة الأفلام، وجدل الديوانيات، بل عايشها شخصيا. في بدايات عمره كان قوميا وتطوع للقتال. ظن انه قادر على إصلاح، بل تغيير، العالم العربي بقوة السلاح، وانتهى سجينا. قبل نحو عشر سنوات زار مسقط، وابدى إعجابه بالتجربة العمانية، التي تركز على التنمية الداخلية والبعد عن المزايدات السياسية الخارجية. لم يخجل او يزوّر تاريخه بل طلب من المسؤولين هناك أن يزور الزنزانة التي حبس فيها وعلمته الواقعية السياسية، وحولها تمحورت كتاباته ومحاضراته في ما بعد. قلت له: دخلتها تشي غيفارا وخرجت منها مانديلا. رد ضاحكا: صحيح خرجت من الزنزانة لكن بقي نظام الابارتايد، (التمييز العنصري)، في العالم العربي. السجن كان درسا واحدا، أما أبلغ الدروس فلم يكن الحبس، ولا حتى غزو الكويت، رغم هول الصدمة، بل اكتشافاته المتتابعة زيف الدعاوى العروبية والقومية والإسلاموية. فالربعي من اكثر الناس الذين كان، ومات وهو مؤمن بها، رأى بأم عينيه أن معظم حامليها تجار شعارات وأصحاب مصالح، حكومات او تنظيمات او زعامات. خيبت آماله بعد سنين طويلة عاشر خلالها منظمة التحرير الفلسطينية، والحركات القومية المختلفة، والجماعات الإسلامية. وعندما اقول إن الربعي ظل في المقدمة دائما لأنه بالفعل كان متفوقا حتى أحلك الساعات. ففي زمن احتلال بلده الكويت لم يكن هناك ما يمكن فعله إلا انتظار الحسم العسكري، او هكذا فعل الكثيرون. الربعي طاف مع ثلة من المثقفين الكويتيين «المناطق المعادية» التي كانت متأثرة بالدعاية العراقية ضد الكويت تحديدا. يقول الذين حضروا نقاشاته في اليمن والأردن وغيرهما، انه اخجل الحضور الذي استقبله بالصفير والسخرية والشماتة وخرج منه متعاطفا محرجا.

فقدنا الربعي رحمه الله وبخسارته خسرت كل الساحة العربية.

[email protected]